أصالة الفن السينمائي بتقنياته السردية المعتمدة على الصور والحركة ضمن الإطار، منحته القدرة على النهل من الآداب والفنون المجاورة. بيد أن علاقة السينما بالرواية هي الأكثـر شيوعاً، وستظل أزلية ومتقدمة على غيرها لمشتركات أبرزها قوة الأفكار وفضاء التخيّل ا
أصالة الفن السينمائي بتقنياته السردية المعتمدة على الصور والحركة ضمن الإطار، منحته القدرة على النهل من الآداب والفنون المجاورة. بيد أن علاقة السينما بالرواية هي الأكثـر شيوعاً، وستظل أزلية ومتقدمة على غيرها لمشتركات أبرزها قوة الأفكار وفضاء التخيّل الواسع. أمر يضع المنجز تحت مسمّى الإبداع الجمالي، شرط توفر العمق التعبيري.
وعليه فإن الاقتباس السينمائي للرواية شكل فني يحمل خصوصيته الفكرية والسردية بعيداً عن الأصل الروائي مهما كان الصانع أميناً على الحدث الكتابي. فمحدودية وقت الفيلم تفترض تكثيف الحكاية والغوص عميقاً فيها بإثراء الصياغة بصرياً على شكل متواليات ذات هارموني عالٍ يفرض واقعه على المتلقي، وينعكس بداخله شعورياً مولداً ردات فعل مختلفة وفق استجابة الوعي لمضامين الأفكار. مايتطلب إحالات بصرية ناضجة تعكس الأبعاد المختلفة للقصة وشخوصها بإطار تقنيات السينما المعروفة. ومن هنا بدأت خيبة (المغشوش) على يد صوفيا كوبولا. لاشك أنها وجدت في رواية الكاتب توماس كولينان ماينسجم ورؤيتها الشخصية لقضايا راهنة. كما أنه شكّل تحدياً أن تعيد للشاشة البيضاء الحكاية بعد نسخة المخرج دون سيغل عام 1971. (هناك موضوعات في الفيلم مرتبطة بالواقع المعاصر. وفي جوهره يكمن الصراع بين الذكر والأنثى من أجل النفوذ والسلطة) تقول صوفيا في معرض حديثها عن المغشوش مرتقيةً منبر (النسوية) احدى أكثر الموجات الاجتماعية حراكاً في القرن الحادي والعشرين. واذا ما كان بتر ساق جندي اليانكي العريف ماكبرني زمن الحرب الأهلية من قبل مديرة المدرسة الدينية الداخلية للبنات في الجنوب الأمريكي نقطة هيجان مشاعر الغضب لديه، مظهراً كامل وجه التسلط لذكوريته. فإنها بذات الوقت، مثّلت لحظة اجتماع الوعي الفردي للنسوة في شكل اتحاد هدفه التخلص من هذا الرجل الذي اقتحم عالمهن زارعاً الفرقة بينهن بالغواية والرغبة الحسيّة وروح الأنا. رد فعل نسائي جمعي كانت نتيجته حكم الموت عليه بنعومة وسرعة بعد وجبة عشاء مسمومة أحبها كثيراً فكانت سبب نهايته. من الواضح أن ابنة مخرج العرّاب سعت لصياغة معالجة سينمائية تتقارب مع تعريف (الفيمنيست) المعروفة لويز توبان لحركة النسوية. والتي ترى أن الوصول لنضوج ثوري يسعى لتصويب ميزان القوى الجنسية وازالة التهميش المجحف للمرأة بلحظات تاريخية فارقة، يتطلب وعياً شخصياً ثم جمعياً. بهذه الرغبة والتطلع ساقت صوفيا الرواية وفق سيناريو يمثل مظهراً للفيمينزم، حين جردت الحكاية من صوت الروي الذكوري كما في فيلم سيغل الذي كان أميناً بصرياً على نص كولينان الى حد كبير. كما أنها ألغت الوجود العسكري لوقائع الحرب بشكل مباشر لارتباطها بالرجل إلا في مناسبتين مرّتا عليهما سريعاً تحت ضغط الضرورة الدرامية. لكن ذلك صار نقطة ضعف كبرى للفيلم. فما أراده المؤلف كولينان هو خلق صورة للجو العام المحيط بالشخصيات وتأثير الحرب على الأفكار والسلوك والمشاعر، أمر نقله المخرج سيغل صورياً بإيقاع جيد وتوقيتات ظهور مناسبة في السرد، مستخدماً الاسترجاعات بالذاكرة عديد المرات، لعكس شخصية الجندي الاتحادي ماكبرني الانتهازية بمقارنات بصرية بين كلامه عن نفسه وسلوكياته المثالية لنسوة المدرسة وبين أفعاله الحقيقية أثناء الحرب. وهو ما منح الشخصية العمق والغنى الدرامي. على عكس كوبولا التي ظهرت شخصيات فيلمها عموماً أحادية المنظور بعد أن شطبت على (الفلاشباك) فبدت مبتورة سلوكياً وغير مكتملة سردياً. ليظهر التمثيل نتيجة ذلك بارداً غير مثري للشخصيات برغم وجود نجوم كبار. لم تكتف صوفيا بمسخ الشخصيات بل صارت وصية أخلاقية على النص الروائي لتشطب على كامل محور العلاقة الغرامية بين مديرة المدرسة وأخيها دون مسوغ مقنع سوى أنها أرادت استبدال مظاهر الحسيّة العاكسة لغواية الرغبة ولهفة الحرمان الجسدي كانبعاث نفسي يتصاعد زمن الحرب والأزمات، نحو اجتماعات دينية تُكثر فيها النسوة من الدعاء لجلب الطمأنينة بنمط عيش قلق يرتفع فيه مستوى الخوف من المجهول لأرواح حائرة. الأكثر أن المخرجة استبعدت شخصية الخادمة الزنجية من قصة الفيلم برغم أهمية وجودها كإشارة لأحد أسباب الحرب الأهلية المعلنة، مسألة الرق وتحرير العبيد التي تبناها الشمال ورفضها الجنوب. ليتجلى كل ذلك بإخفاقها في استجلاء مكامن المشاعر المختلفة وخبايا الاحاسيس والأفكار للشخوص. بالمقابل سعت لتعويض الإلغاء السردي بمناخات لونية غلب عليها تدريجات للرمادي مع عتمة جزئية في محاكاة بصرية للقصة، لكنها لم تقدم الكثير للوصول الى المشاهد بمراميها. على عكس المخرج سيغل الذي نجح كثيراً باستخدام الإضاءة الخافتة للشموع والفوانيس كنقاط انارة لإظهار الرغبة والغواية الحسيّة على وجوه الشخصيات، وأيضاً كمعيار جمالي لتلوين الكادرات وإبراز التفاصيل. حاولت صوفيا أيضاً استعراض قدراتها كمخرجة باللجوء الى معادلات بصرية للنسوة، يتمثل بالغابة وشكلها البري حيث أغصان الأشجار المندفعة بشراسة الطبيعة نحو تشابك بينها يمنحها بالإضافة للجمال القوة. ويبدو أنها متأثرة باتجاه لأحد التيارات النسويّة الذي يربط بين اضطهاد المرأة والبيئة. حيث الرجل هو الخصم الأول لكليهما. والحقيقة أن أجمل ما بفيلمها هو تلك اللقطات البديعة لمظاهر الغابة والاتقان البصري في رصد جمالها. فتسوقها صوفيا كمعيار للأنوثة البرية الفاتنة لنساء المدرسة. وإذا ما بنى سيغل فيلمه على رمزية الغراب الجريح الذي تطببه إحدى الفتيات ثم ميتاً يتدلى من حبل في النهاية. فإن صوفيا جعلت من أغصان الأشجار المتدلية كرمز بصري لأذرع النساء التي حملت الرجل الجريح مرة إلى داخل المنزل الكبير وأخرى ميتاً إلى خارجه. قوة رواية كولينان تكمن في استعراضها لأبرز شعورين تلجأ إليهما نفوس البشر أوقات المحن والحروب حيث القلق الكامن، وهما الرغبات الجسدية المكبوتة نتيجة الحرمان، ومسحة التدين المبالغ فيها كرد فعل يبحث عن السكينة الغائبة. وما بين مظهر زائف ورغبة دفينة وضع كل من سيغل وكوبولا حكاية فيلميهما. نجح دون في مسعاه كثيراً حين بنى النص السينمائي على فكرة أن في الحرب تكون الخسارات الإنسانية عظيمة والأخطاء لاتغتفر. بينما فشلت صوفيا لأنها اسقطت ثيمة رؤيتها بغير مكانها ولا زمانها، فتاهت هي قبل شخصيات الفيلم وبدا كل شيء ضائعاً بين أحراش غابة (المغشوش).