وضعت حقائبي وسط صالة البيت الذي سأقضي فيه عشرة أيام في حي (سان فيليب نيري) وسط مدينة ملقا، جنوب إسبانيا، والذي استأجرته من ايرلندي اسمه غاري، يعيش على أطراف ملقا، ويؤجر بيته الثاني هذا للسيّاح الراغبين بقضاء بعض الوقت بين احضان هذه المدينة التي تغفو على الساحل الدافئ للبحر المتوسط. فرشت خريطة المدينة على الطاولة، باحثاً عن اقرب مقهى أو متحف لقضاء ما تبقى من ساعات النهار، فالتمع على الخريطة متحف الزجاج، الذي يقع في الشارع المحاذي لبيتي. طويت الخريطة بسرعة وخرجت، لأجد نفسي بعد ثلاث دقائق أمام المتحف الذي هو عبارة عن بيت كبير يعود طراز بنائه للقرن الثامن عشر.
حين هممت بتفحص المكان ورؤية المعروضات، أشار الشاب الذي قطع لي تذكرة الدخول بأن نظام المتحف يقضي بأن يقوم الرجل الذي يملك المتحف باصطحاب الزائرين على شكل مجموعات في جولات متتابعة لرؤية المحتويات والحديث عن الكثير من التفاصيل. كان الرجل مشغولاً مع مجموعة من الأشخاص (تبيّن لي فيما بعد أنّهم خمسة اشخاص بولونيين وزوجان بريطانيان) وحين رآني الرجل عن بعد، طلب مني الانضمام الى المجموعة وأخبرني بأنّه سيصحبني أيضاً فيما بعد الى المعروضات التي فاتتني. عرفت من صاحب المتحف الذي تجاوز الثمانين من العمر بأنه ولد في مدريد ودرس (المصريات) في كامبردج، وهو قد أضاف الأموال التي حصل عليها من اعماله الخاصة الى ما ورثه من عائلته الغنية، ليؤسس هذا المتحف الجميل الذي وضع فيه كل شغفه وحبه لأعمال الزجاج والكريستال ويبني عالمه الخاص الذي يستمتع بالتجوال فيه مع الزائرين. وبعد انتهاء العمل يصعد في السادسة مساءً الى الطابق الثالث الذي يعيش فيه، ليقضي مساءه بهدوء، وهو يُقَلَّبُ في ذهنه افكاراً جديدة لليوم التالي.
المتحف يحتوي على ثلاثة آلاف قطعة نادرة من فترات وعصور بعيدة ومتفاوتة. فإضافة للزجاجيات التي تعود لمصر القديمة وكذلك للقرون الوسطى، فهناك اعمال رومانية واغريقية وبيزنطية وإسلامية و (ماقبل الروفائيلية)، وقد نُفِّذَتْ أغلب الأعمال بتقنيات مذهلة ونادرة، ومنها تقنية (كامي) التي نفذت بها بعض الأعمال الانكليزية من القرن التاسع عشر، وهي تقنية الحفر على الزجاج وإلغاء جزء من الخلفيات لتبدو الأشكال والشخصيات وكأنها عائمة أو بارزة. بعد قليل من التجول بين التماعات الزجاج وسحره، وقفت أتأمل عملاً كبيراً للفنان وليم موريس، وهو بارتفاع ثلاثة أمتار ويعود الى ماقبل الروفائيلية وقد نَفَّذهُ الفنان بالزجاج المعـشق بالرصاص. شعرت أن الاضاءة التي تنبعث من خلف العمل تعطيه نوعاً من السحر والسكينة، فاقترب مني العجوز ليخبرني بأن هذا العمل الفريد قد حصل عليه من كنيسة قديمة في ايرلندا، كانت مهملة ولم تعد كنيسة على حد قوله، وقد حطم أولاد القرية شبابيكها بالحجارة، وقد حمى أحد الاشخاص هذا الشباك أو هذه اللوحة، ورأى أن متحف الزجاج هو المكان الأنسب لعرضها، وهكذا تم انتقالها الى هنا لتأخذ مكانها المشع بالضوء والاهتمام والتقدير.
في الباحة الخلفية للمتحف صعدنا ببطءٍ درجات السلّم العريضة المغطاة بأحجار وتزجيج ملون، ما جعل خطواتنا اكثر خفة، لنصل الى صالة يدخلها الضوء الملون من خلال شبابيكها المصنوعة من الزجاج المعشق بالرصاص، وعلى رفوفها اعمال فنية مصنوعة بتقنيات زجاجية مختلفة وبألوان تتداخل مع بعضها لتخلق سمفونية من الزجاج.
مدهش حقاً أن يصحبني صاحب المتحف بجولة نادرة وهو يتحدث بحماس وجاذبية مع بعض الدعابة التي يضفيها على المعلومات المدهشة التي يمتلكها حول الزجاج وفنونه وتقنياته، هذا الرجل العجوز يحمل روحاً شفافة مثل شفافية القطع الزجاجية الثمينة التي يحتويها متحفه النادر. وأنا أهمُّ بالخروج، شكرته كثيراً، ثم نظرت الى إنعكاس وجهي في المرايا والزجاجيات الملونة التي وضعت بعناية فائقة، وجهي الذى بدا متحركاً مثل لوحة لفرانسيس بيكون. ضحكت في اعماقي ووضعت قدمي على العتبة، لأخرج وانا افتح الخريطة من جديد، باحثاً عن أقرب مقهى.
متحف الزجاج
[post-views]
نشر في: 20 أكتوبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...