ترى من يدفع بالناس إلى طريق الدم بدل سبل الحوار والحب والأمل؟
هل هي جريمة الساسة؟ أم تراها الأيديولوجيات العمياء التي دجّنت عقول البشر وحوّلتهم إلى روبوتات تردد مقولات مفارقة لطبيعة حياتها وآمالها؟ أم هو تردي أوضاع الاقتصاد وتفاقم الفقر والظلم وسطوة الجهل؟
لقد غاب الوعي عندما أسلمت الجموع مصائرها لقادة التجهيل، واحتجزت ملايين البشر في زنزانة التلقين الإعلامي، وتخدرت العقول بما تبثّه التلفزة وبما تفضي إليه وسائل التواصل الإلكترونية من إدمان على تفاهة القول وعنف التعامل.
العنف يغرق بلادنا ويلوثها بدماء الكراهية، فمتى يفتح العراقي نافذته وأحلامه على أفق يهدهده الأمان الجميل واللغة المسالمة؟ متى تستعيد الجموع وعيها المُغَيّب لتمحو من لغة التعامل مفردة الحرب والدم.
كلما غاب الوعي خوت الرؤوس وصارت مرتعاً لكل التفاهات وتهيأت لاحتضان جنون العنف وخمدت طاقة اللغة وعجزت عن استنهاض الوعي وإدارة الحوار، وكلما لجأ الناس إلى العنف في القول والسلوك اليومي، فإنهم يعترفون بهشاشة وعيهم وعجز لغتهم وانحرافهم عن سبل التأنسن فيعودون إلى أسلافهم الصيادين المتوحشين كائنات الكهوف.
يعطّل العنف المتصاعد القوة الكامنة في اللغة والكلمات ويستبعد أهمية تداول اللغة في إدارة الحوار بين البشر الأسوياء ويدمر إمكانات التفاهم بين البشر، وكلما تعطّلت طاقة الحوار هيمن العنف على المشهد لأنه خيار العاجز ووسيلته لحل مشكلات الوجود مما يستدعي تجييش القوى الضارية الراقدة في أعماق الإنسان وإيقاظ الوحش الكامن فيه. يستدعي التحرر من أشكال العنف، تجديد اللغة وتحريرها من مفردات العنف التي استمكنت فيها خلال العصور بفعل عقائد معينة وتقاليد ثأر وعادات قبلية بائدة وأعلام تحريضي، فتمترست في العقول بعون من وسائل الاتصال وسرعة وصول المعلومة والصور الدموية ومشاهد القتل المتفاقمة التي أضحت زاداً يومياً لمشاهدي التلفزة ومدمني وسائل التواصل.
العنف يتعاظم عند تعاظم عسكرة المجتمع وتجهيله وإشاعة النزعات القومية العنيفة والدينية المتعصبة والعرقية وإحياء الطقوس الدينية الدموية التي تجعل تعذيب الذات مدخلاً لممارسة العنف على الآخر، وتسهم مفردات مناهج التعليم عموماً في وضع العنف موضع التبجيل والتقديس كعنصر من عناصر الدفاع عن الأمة ونقائها ولا نجد في مفردات دروس اللغة العربية في بلداننا - بخاصة في المراحل الثانوية – سوى القصائد والنصوص التي تعجّ بمفردات الموت والمشانق والمنايا والغزو وتدمير الأعداء وسحق الرؤوس وباقي المفردات التي تتحدث عن الفداء والمقابر والأكفان والطعنات والردى.. وتبعاً لهذا النهج يجري استبعاد كل نصّ أو بيت شعري فيه غزل رقيق أو مشاعر إنسانية رفيعة أو عواطف وأحاسيس ترهف الذائقة وتهذب اللغة وتمنح الطالب متعة وتخصب خياله بالصور الجميلة وتعزز قدراته التعبيرية وإنسانيته، لذلك نجد الكثير من الأجيال الشابة تفتقر إلى مهارات الكلام الشيّق اللطيف، وتعجز عن التعبير الطليق، لأنها لم تتدرب أساساً على التفكير الحر الذي يرتبط به غنى اللغة وتنوع مفرداتها، فقد جرى تلقين الأجيال تلك المعلومات الجافّة والمادة الدراسية الميتة التي تقحم قسراً إلى عقولها الفتية؛ فنشأت أجيال منزوعة الإرادة تفتقر للقيم الإنسانية الجميلة، أجيال ترعرعت على قيم الثأر وقطع اللسان، إذا بادر أحدهم ونطق أو عارض رأياً أو تمرد على خرافة سائدة أو ثأر على تفاصيل الحياة التي قنّنها كهنة السياسة وحرّاس الفضائل الزائفة، فاتجه هذا الجيل المدجّن إلى ممارسة العنف لعجزه عن التحاور واعتناق السلام، روّضوه على التماثل والطاعة المطلقة وحرمة الاختلاف عن القطيع، فعجز عن الارتقاء بإنسانيته وتلبث في توحّشه.
الحرب: عنف القول.. هيمنة التوحّش
[post-views]
نشر في: 21 أكتوبر, 2017: 09:01 م