ياسين طه حافظلابد لنا من ان نضع عنوانا كذاك، ما دمنا لا نجد ما نشير الى هذا الجانب من الإشكال المعرفي ويمنحه تفسيرا علميا. أما الانشاء والتعابير ذات القدرة "الانزلاقية" فقد تريح المتسائل ولكنها لاتشخص العلة، وتظل الظاهرة مكانها من يجدها "مرَضية" لا يُشفِها ومن يجدها "نفعية" يستمر على استغلالها. لهذا سأبدأ بالمعرفة بوصفها احدى صور المراتب الاجتماعية ولها،
مثل المراتب الاجتماعية انحدار طبقي، ومثل المراتب الاجتماعية لها مصالح نفعية وطبقية على وجه التحديد. تاريخياً، هي وصولية مثلما هي اداة. الاستثناء في الدرجة وارد. ولكن عموم المعارف، كانت كذلك. وعموم المعارف في عصرنا، وفي يومنا، هي كذلك. من معرفة الآلة الى معرفة الجينات، وبلا استثناء. ورعاية كل تلك النشاطات المعرفية هي رعاية مصالح وفي تاريخ، في سلطنات او ممالك الشرق، كان الحاكم او الخليفة او السلطان او الامير والوالي، لا يرعون المعرفة لانها معرفة، ولكن لانها مظهر سلطاتهم جاها ومصالح. الخليفة الفلاني حمل الابريق، وسكب الماء على يدي العالم ليغسل العالم يديه. لا يوجد حاكم خير وطيب لهذا الحد. ان وراء ذلك اكثر من جدوى انه يضعه في خدمته وفي خدمة سلطانه ومنافع طبقته كلها ... وهذا المشهد التمثيلي ليس الا واحدة من اكاذيب اعلامية يمارسها الذين يجلدون علنا ويغتالون سرا واكاذيبهم هذه يفضحها ما يتفتح من هذه المعرفة من اصطراع المصالح، وما يؤدي اليه هذا من مواقف مثل التكفير او الاتهام بالتهافت والضلالة، او القصور اذا لم يشكل الخلاف خطراً. ليس هذا هو اساس او جوهر ما اردت. لكني اردت ان اشير الى المعارف الأُخرى المهملة في الجانب الاخر. تلك هي معارف "العوام" كما يريد المتفوقون "تسميتهم او معارف الجماهير الشعبية كما نسميهم نحن. المعرفة بالفصول ومتغيرات الطبيعة والزرع والآلة ووسائل الانتاج. هي معارف لأي سبب او لأي جذر عزوتها. هنالك تراث معرفي ينمو ويتطور. هو ليس كالادب الشفاهي الذي يحمل اسباب انقراضه، هذه معرفة نظرية وتطبيقية، لكن "سلطة المعرفة" المتفوقة تضعها في خانة الخبرات، وتضعها مع "احتياجات" المعرفة عند المشروع او التطبيق! إذاً هي لا تريد الاقرار بصفة "معرفة" لهذا النوع من المعارف لانها لا تريد الاقرار بامتياز لاصحابها! وقد تسأل الان: ما الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع؟ وانا اتابع فلما عن الحفريات في مدينة اثرية، انتبهت الى معرفتين او خبرتين متكاملتين. الاولى لعالم الاثار والثانية لعامل الاثار الذي كان يزيح التراب بعناية ومعرفة دقيقة، يسمونها "دِرْبة". كان العمل متكاملاً والاثنان يخدمان هدفاً واحداً. لكننا نرى الآخر عاملاً محترفاً ويظن عليه بان يكون عاملاً خبيراً. قل مثل ذلك في حقول الزراعة والصناعة وتربية الحيوان والطبابة والري.. ان القول بالاختلاف بين المعرفة الناشئة عن النشاط الذهني والمعرفة التجريبية او معرفة "الممارسة"، هو قول لا يستند الى واقع علمي. لان النشاط الذهني مرتبط بتجربة والتجربة مرتبطة بنشاط ذهني. وهذا الفصل هو اساسا فصل طبقي. وهو في رأيي مظهر او "مكسب" سلطوي اساسا؛ وليس صعبا ارجاعه الى اسسه واصوله التاريخية. لا استبعد ان يكون هذا استفادة من الفكر الفلاطوني الذي يعطي للعمليات الذهنية امتيازاً وتسامياً على العمل اليدوي. ونحن نعلم بان المعرفة الفلسفية والادراكية للعالم الخارجي كانت تحتل المرتبة الاولى في اليونان القديمة وتخترق الانواع المعرفية الاخرى. هذا الامر ابعد التماس مع الواقع اليومي، مع الحياة العملية. فتم بذلك الابتعاد عن ناس العمل اليومي كلهم وصار النظر اليهم من فوق.. وقد يقال ان المعارف الذهنية، او الكتاقرائية، متعددة الدلالة بينما المعارف الشعبية، او التجريبية، احادية الدلالة. وهذا الكلام غير صحيح لان التعدد تقرره غاية الدراسة او التجربة. ومثلما ينحي هذا الدارس بعض النتائج جانبا الى مناسبة أُخرى، او الى غرض آخر، ويستمر الى غايته، كذلك الامر بالنسبة الى خبيرنا في استخراج الاثر او في تجبير الكسور او العامل في تربية الحيوان هو ايضا يلاحظ نتائج أُخرى لكنه ينحيها او يدخرها لحين آخر ويستمر الى غايته. كما ان المهارة مطلوبة في الحالين.. ولكي نضع المسألة في سياق التحليل العلمي نقول: ان الوجود الاجتماعي يحدد الادراك الاجتماعي. بمعنى آخر ان الافكار والمعارف السياسية – الحقوقية ونوع الآلة وطرق استعمالها او تسخيرها وضمنها كل الخبرات او المعارف المتعلقة بالوجود الانساني ضمن ظرف معين، هي انعكاس للشروط المادية للحياة في ذلك الظرف. وهذا ما قال به الماركسيون قبل قرن تقريباً. والتباهي "بالمعارف الجديدة" التي هي نتاج تطور مادي اتسعت لتشمل الطبقات المماثلة لها في المجتمعات الأُخرى والقريبة منها. اذن هي معرفة متقدمة، وتلك معرفة ثانية. الاولى معرفة علمية متقنة ومبوبة او مصنفة وهذه معارف موروثة ومتراكمة ولها تطورها وان كان بطيئاً. ومثلما في الاولى صواب وخطأ، في الثانية أيضا صواب وخطأ. تلك مرتبطة بوسائل انتاجها المتقدمة وهذه مرتبطة بادوات الانتاج البسيطة او الاقل تطوراً.. ذلك يزيح التراب عن الكتابة بمنفاخ يعمل ببطارية وهذا
طبقية المعرفة
نشر في: 28 فبراير, 2010: 06:20 م