دعهم يخوضون مخاضتَها، اتركهم يتسخون بأدرانها، وانج بنفسك. أنتَ يا صديقي الشاعر، يا فلّاح الكلمات. يقولون إنك تذهب مذهبك في العشق والتأمل والتلذذ، والوطن يصطرع والبلاد تنتهب وتتفكك، فتتذكر نيرودا واراغون ودالي، وكيف انَّ أحدهما عنّف دالي، على واحدة من شطحاته، لأنه سكب على بذلته زجاجة حليب، ووقف متبخترا، كانت الحرب قائمة. أكنت سبباً في خراب بلاد أول من نادى برفعْتِها أنت؟ أكنت وراء أموالها التي نهبت وأنت سبقت المحاكم والقضاة الى استردادها؟ ماذا ستفعل بمن يقاتلك لأجل تعميق خرابها؟ وأين ستصطف وكلهم يوصمك بالعلماني والكافر والملحد. أتركها لهم، تنازل عن حقك في عصافيرها، وليأخذوها مما ظل في جوفها من طمأنينة أكفانا لحياتهم.
يسألك احدُهم: أتخرج للمقهى فتقول: أحياناً. ويسألك آخر: أتشترك في حديث الشعر والثقافة؟ فتجيب : الى حدٍّ ما !! وآخرون يسألونك أسئلة في السياسة والسفر والصدق والمناسبات الوطنية والدينية والاجتماعية فتحارُ تجيب. أتذهب للمسجد والحسينية والمضيف ؟ كل سؤال تهمة. وكل إجابة تودي بك الى متاهة . أهل البلاد هذه كثيرا ما يسألون وأنت لا تملك إجابة، او تملكها، لكنَّ صمتك السلامة، بعدك الطمأنينة، اختفاؤك الأمن، ووجودك فرداً خير من وجودك في الجماعة. أهل هذه البلاد بلونين لا أكثر، كلهم يرديك معه ضد آخره، وكلهم آخر، فإلى أين تروح؟ يا أنت، الذي لا تشرق الشمس على سريره نائماً.
في الصباح، ومن مذياع الهاتف، اعتدت سماع اغنية عن الابواب التي تشرع باكراً، ويغطي عتابتها العشب، يتنزلُ الياسمين الأحمر من شرفاتها ويغمر مداخلها النور، وفي الصباح تذهب للمرآة تحسبها أصدق من الامس في حساب تجاعيد رقبتك، تعدُّ فطورك وحدك. الشاي بالنعناع والحليب تنتظره، يزبد على النار. ومن النافذة التي تطل على النهر تتابع محاولات الأوز الابيض في الطيران، تتذكر سانت اكسوبري، في بريد الجنوب وهو يقول: "تعاود الإوزَ البريَّ الرغبةُ في الطيران كلما قرُب موسم الهجرة". تتأمله، وهو يفرد أجنحته في المساحة التي اتيحت له بين الحديقة الواسعة والنهر. يبرد قدح الشاي وتنتهي الأغنية ولا يطير الأوز أبعد من عينيك، ولأنك نسيت فطور الفلاح في خزانة الطعام فقد غطت الشمس النخل كله.
بين باب البيت الخارجي وقدمك ليس أكثر من خمسين خطوة، لكنك قلما تبلغه، ومن قضبانه الحديد، خلال ثقوب الصفائح ترصد الذين مروا، هؤلاء الذين سيظلون يمرون دائماً، يذهبون الى الحياة، هذه التي تقف فيها أنت، تكتفي من دنانيرهم بالدراهم التي في بطاقة التقاعد. لم تقتن مركبة، منذ أن عرفتك وقدماك دابتك الى حيث تريد، لم تسع الى حيث اعتقده الناس مجداً، منذ أزمنة والنهر مجلسك والنخل متكؤك، تتبع الظلال وتستدير معها حيث تدور، وحيث يكون الماء تكون، حيث تنوح فاختة تبكي بلادك التي لم تعد. ينتصرون ويصفقون، يخسرون ويبكون، يسرعون ويبطئون، يصعدون وينزلون وأنت أنت، مثلما عرفتك قبل ستين عاما. لا تبرح مكاناً خلقت منه. لن يبلو ثوبٌ أول من خلعهُ عليك قلبُك، لن تستوحش داراً تزاحمك فيها رائحةُ أبيك وأخيك.
أنتَ والآخرون
[post-views]
نشر في: 21 أكتوبر, 2017: 09:01 م