تعرفتُ على السوري، كاتبِ المقالة والقاصة، عدي الزعبي، عند زيارتي الأخيرة لمالمو وكوبنهاغن. كان، في حديثه معي، أكثر من مقنع، لا بفعل توافق الرأي أو اختلافه، بل بفعل الوعي الذي يسكن هذا الرأي في التوافق والاختلاف. حين قرأتُ مقالاتِه وقصصَه في كتابيه "قنديل أم هاشم المفقود" (سلسلة شهادات سورية)، و"الصمت" (دار المتوسط) تأكدت لي صحةُ هذا الوعي، الذي يسكن الكلمةَ، الجملة، الفقرة والسياق العام، في كلا القصة والمقالة.
محنة السوري في المنفى لا تختلف عن محنة العراقي في المنفى؛ كلاهما لا يحيد عن رغبة الاستدارة إلى الخلف، داخلياً إلى الذاكرة، وخارجياً إلى المعترك الدامي ومشهد الخرائب. كلاهما يسعى بحرارة لا تقل دموية إلى اتخاذ موقف بالغ الحدّة، بالغ الوضوح. الذي أعجبني في عدي انه استثناء لا يخلو من غرابة. قصته تتركك مشرعةَ الذراعين، حيرةً أو رغبة في الاحتضان. مقالته تكاد تكون كذلك، إلا في بعضها بحكم ما يمليه الحماس السياسي. إنه أعجز من أن يتخذَ موقفاً حاسماً أمام رتل القتلى من كل الأطراف، فهم في بصيرته شهداء. لغته لا تسعى إلى إقناع أحد. حتى "ثائر العجلاني"، أحد أعلام جيش النظام، يستعيده كصديق طفولة حين قُتل "..هناك في جوبر، مدافعاً عن قضيته." ويكتفي بالتساؤل "ولكن أية قضية يا ثائر؟".
قصتُه لا تعتمد حكاية، بل تكتفي برصد مشهد، أو مَشاهد، عادة ما تدور بين عائلة سورية في بيت، أو بين شبان سوريين، والحوار عمادُها. حتى ملاحقة الكاتب في رصد حوارهم لا تخلو من رغبة المشاركة في الحوار. ولا يخفى على القارئ بُعدُ "السيرة الذاتية" في النص القصصي. في بعضها يكون هذا البعدُ مباشراً. المحاورون معنيون بمأزق حياتهم العينية؛ حياتهم الحاضرة والآتية، وفحص قدرتها على تحقيق المسرات الممكنة. إنهم كذلك دائماً، بالرغم من وطأة أجنحة الوطواط التي تخفق سوداء فوق رؤوسهم.
أكثر شخوص قصصه نساء، شابات على الأغلب. يتحلى أغلبهن بحكمة تفتقدها عند الرجال. لعله الضيم، أو الحمل والانجاب: "تقول ماري إنني عصبي على الدوام، وإن التأملَ يساعد أمثالي. ماذا أتأمل؟ "تأمل نفسك" تقول ماري.(ص9) "رجل وامرأة على الشاطئ. الرجل ينظر إلى المرأة، أما المرأة فمأخوذة بالبحر."(25) "تُقاطع أفكاري، "لا داع لقول ما لا يُقال. إن وجدتَ من يجعلك تشعر أنك مرغوب، فتمسّك به."(30) عدي من أم مسيحية وأب مسلم، في واحدة من المقالات يقول لجدته في أحد الأعياد" إنني لا أؤمن بقيامة يسوع؛ تضحك بصفاء: مو مشكلة يا عدي بشو تآمن، المهم تكون منيح مع الناس."(52)
حصل عدي الزعبي على درجة دكتوراه فلسفة من بريطانيا. اختار أن يخرج من هذا البلد الذي يطمع فيه كل منفي، ويقيم في اسطنبول، على مقربة من لاجئي شعبه، ومنها يقيم في كوبنهاغن لاجئاً. البصيرة التي جعلت جملته في قصته ومقالته واعيةً، إنما تولدت من فضول دفين للمعرفة، عبر القراءة وعبر الخبرة. ولعلها أيضاً وليدة جينات أخصبها التلاقح الديني في العائلة، ومنحها هذا الوقوف النافع على المفترق. إن تساؤله: "أية قضية يا ثائر؟" تنطوي على تساؤل استنكاري؛ ولكنه موجّه للنفس أيضاً. القاص فيه يترك أبطاله/ أصدقاءه يتحدثون، دون رقابة منه. من كان على حقٍّ منهم أو على باطل. لأنه، هو ذاته، غير مطمئن من حقه وباطله. إن مفترق الطرق الذي يراوح عليه يمنحه حرية التحليق فوق التاريخ، ليتأمله من فوق. تحليق هو نواة المبدع، لا في حقل الشعر وحده.
المنفي السوري في قصصه هو صورة ظلية للمقيم السوري تحت عجلة القتل المسننة، وصورة ظلية للسجين السوري، وللقتيل السوري: "أجل، نحتاج جواز سفر، وفيزا فقط." تبدأ المرأة بالضحك. "لا. نحتاج أن نعرف ما الذي نريده."(75) هذه الحيرة تولّد وحشة هي نواة في شخص الكاتب؛ تمنحه عتمةً، وتمنحه إضاءة قلب مُشفق.
المَشاهد التي تعتمد الحوار لا تكاد تقول فكرةً، أو شيئاً بعينه. إنها تعتمل، ولكنها لا تقرر. وما أن تنتهي حتى تترك فراغاً فعّالاً، يُطمّع قارئه في أن يملأه باجتهاده.
عن الجملة الواعية
[post-views]
نشر في: 22 أكتوبر, 2017: 09:01 م