أعظم القصص هذه ليلته الأولى في القبر المظلم الموحش، بعدما شيّعه أهله ومعارفه ودفنوه ولما يزل يسمع عويلهم، الذي تلاشى شيئاً فشيئاً،ليحل محله ضجيج أصوات تدعو المشيّعين إلى المغادرة، بعد أن بدأ الغروب يميل إلى العتمة. سكن كل شيء.. تكثفت الظلمة في فضاء ا
أعظم القصص
هذه ليلته الأولى في القبر المظلم الموحش، بعدما شيّعه أهله ومعارفه ودفنوه ولما يزل يسمع عويلهم، الذي تلاشى شيئاً فشيئاً،ليحل محله ضجيج أصوات تدعو المشيّعين إلى المغادرة، بعد أن بدأ الغروب يميل إلى العتمة. سكن كل شيء.. تكثفت الظلمة في فضاء المقبرة الواسعة الأرجاء.
بدت روحه تصغي إلى أي دبيب، سماع أيّ صوت يشعره بأن فيه بقية روح بعد أن أصبح بقية أشلاء في انفجار مفخخة صباح هذا اليوم في منطقة السنك، وسط بغداد العاصمة، وهو يرتزق من بيع الكرزات في "جنبر" ليعيل نفسه وعائلته.
كان إصغاؤه أثمر عن احساسه باقتراب كائنات هلامية، أصغى لدبيبها متسللة من جدران القبر بجهاته الأربع، بدت هذه الكائنات تتحول إلى كثافة صوتية، حين بدت تلقي عليه التحية بوصفه ضيفاً كريماً، وهي جاءت لمواساته، اندهش كثيراً، حين أخبروه أنهم يعرفون قصة مقتله، لكنهم سيعرّفونه بقصصهم، هذا اغتيل بكاتم صوت، وآخر اختطف لأجل دفع فدية ومع ذلك قتل، وثالث مات بعبوة ناسفة في الكاظمية، ورابع نتيجة انتحاري فجّر نفسه في مجلس عزاء بالعامرية، وخامس في معركة تحرير الفلوجة من الغربان السود، وسادس في معارك أيسر الموصل، وسابع في معارك مصفى بيجي، وثامن في معركة تحرير أيمن الموصل من تلك الغربان، وتاسع في معركة آمرلي، وعاشر كان أحد مغدوري سبايكر.....................
عجب لتلك القصص، ليس هناك موت طبيعي أبداً، وفي لحظة تأمله تلك، ساد الهدوء، شعر أن تلك الكثافة الصوتية التي آنسته في ليلته القبرية الأولى، تحولت إلى كائنات هلامية مرة أخرى، بدت تنسل رويداً مع بزوغ فجر يومه الثاني في القبر.
ظلت روحه طيلة النهار تعيد استذكار تلك القصص، يخترق استذكاره صياح هنا وعويل هناك في المنطقة المحيطة بقبره، مصغياً لكلمات الرثاء عارفاً قصة موت هذا وهذاك.
حين أطبقت عتمة ليلته الثانية في المقبرة متجلببة بالهدوء المخيف، وجد روحه تتسلل خارجة لتدلف إلى جدران قبر شيّد اليوم، قرأ السلام على ساكن القبر الجديد وبمعيته وحواليه كائنات يوم أمس، بادرت روحه إلى التحدث للضيف الجديد.. بأننا نعرف قصتك فقد قتلت في الأزقة الضيقة في أيمن الموصل، بدءوا يتلون عليه قصصهم الحزينة.
خلد هو إلى تأمل أنهم لن يموتوا، طالما أنهم سيحكون كل ليلة أعظم القصص...
صيد
اعتاد الوقوف يومياً في موقف انتظار باص الدائرة، الذي لا يصل في موعده المحدد غالباً، فينشغل عن وطأة الانتظار، بمعاينة الغادين والرائحين، وكذلك السيارات المارقة إلى مختلف الاتجاهات.
كلما تزداد تلك الوطأة، إلى الدرجة التي يصبح فيها احتمال عدم مجيء الباص كبيراً، يبدأ برمي شباك القصص على المارة هنا وهناك رجالاً ونساء. كل له قصته، كم سيصطاد من القصص. لا تحصى. يفكر في تلك الماخرة بسيارتها الحديثة في نهر الشارع كل يوم، ما سرها؟!
في ذلك اليوم القائظ من أيام الانتظار. فكر أنها لم تمرق اليوم في وقتها المحدد .
حدث أن هطل المطر على البقعة الصغيرة التي يقف فيها فقط، وكل ما يحيط به صحو، ما عدا غيمة صغيرة ترتفع فوق رأسه شاقولياً، بمسافة ارتفاع شاهق.
الغيمة الغريبة تقصده هو، تحرك مبتعداً عن شدة المطر، لاحقته هي ومطرها، تلاحقه أينما فر، يركض تركض معه، يقف تقف أيضاً. عدا بأقصى ما يستطيع، كان مقصده البيت فهو ما سيحميه، من شلال المطر المجنون، الذي أفقده السيطرة حتى على مسار البيت، شدهه إلى الدرجة التي جعله فيها يبحث عن أي باب مفتوح، كي يدخل منه بدون استئذان، فعلاً دخل أحد البيوت، ذات حديقة فسيحة، مع أرجوحة تتناوم فيها امرأة، إنها التي تمرق أمامه بسيارتها كل يوم. تبدو مسترخية، كأنها تحدق في سرب من الأحلام. المطر مازال المطر يجلله بسيله الأزرق. حين لمس كتفها كي يوقظها، استيقظت جفلة. عند ذاك تلاشت الغيمة وسكت المطر.
قال: أنت الغيمة الغريبة والمطر المجنون.
هي بكت...
وهو أصبح في يديه قلم وورقة...
* شاعر وكاتب عراقي