مفارقةكيف تأتّى لها أن تجد لها عيونا،ً عيوناً بقدر القامات الهاجعةُ ظاهراً فوق الكراسي الوثيرة، والمتوترة المحتدمة باطناً،... وهي تحدق في بدنها الزاهي بالألوان الفاقعة الصارخة الموجعة التي كانت تخرج من فرشاة الفنان المتآصر مع المحن والجوع، ظمأى نحو ا
مفارقة
كيف تأتّى لها أن تجد لها عيونا،ً عيوناً بقدر القامات الهاجعةُ ظاهراً فوق الكراسي الوثيرة، والمتوترة المحتدمة باطناً،... وهي تحدق في بدنها الزاهي بالألوان الفاقعة الصارخة الموجعة التي كانت تخرج من فرشاة الفنان المتآصر مع المحن والجوع، ظمأى نحو الشبع، فكانت تنفرش على صدرها وتتشرب زهوها بعطش وإملاق أرض ممحلة، ومن ثم تلحظ النحيب الواهن الذي يترجرج من الوجه الأجدع الملتحي للكائن الذي يوزع الزهو بأصابع مشعرة ناصلة ملونة. وتحديداً يوم تمخضت من أنامله، وحالما سرت الحياة في عروقها وأعطافها كان أول شيء أبصرته صورة الفنان الذي أوجدها وهو يتهالك على كرسي –وجدت رسمه بعد حين- مركونة على الحائط الأجرد وفي يده فرشاة يسيل منها بخيط رفيع، لون يتمثل ألواناً عدة، وهو يعصر أعلى بطنه ويهمس.
- الجوع حاكم مستبد.
وبعد أن تيبست ثيابها المزركشة وقف يتأملها ثم ارتسمت على شفتيه الممحلتين طيف ابتسامة. مرر أصابعه الحرشفية يتلمس ثيابها بحنو عاشق متبتل ثم حملها نحو النافذة المخلوعة وأركبها على حافتها وجلس على كرسيه العتيق يمعن نظراته الحريفة، ثم غاب.........!.
وها هي الآن بعد تصرم قرن ونيف تقف منتصبة بشموخ زائف على حائط بارق والعيون تشدو إليها وكأنها غادة تميس على مويجات بحيرة ساحرة...، ثم تسمع صوت رجل أنيق جداً ببدلة مكوية بإفراط جداً، يهتف بصوت منغم مدرب.
- ثلاثة وخمسون مليون دولار، من يزايد، من....
ومن الأفواه المشدودة، بشفاهها المزمومة والمنفرجة والمتلاصقة أدركت السعر الخرافي الذي وصل إليه ثمنها، والعيون تتصالب كالكلاليب حول تفاصيل جسدها، فحرنت وهي تدق أسافينَ في العيون العديدة، في الأضواء الساطعة الشاهقة، والجدران المحببة المطلية بالألوان الزاهية، والكراسي المتراصة الموشاة التي تنوء بمؤخرات باذخة للرجال والنساء، أطلقت في كل الوجوه سهماً من شواظها وصرخت بهم بكل ما أُوتي لنبرتها من ازدراء.
- نفختم أوداجي يا.....
ثم وهي تبكي ألواناً تغسل رياء وجوههم وقاماتهم، وتنساح ألوانها أمام ذهولهم، وتلهج.
- والفنان الذي أوجدني مات أمام عينيّ بحسرة كسرة خبز تشبع جوعه الأسطوري.
وصم القاعة والفناء والفضاء صوت رعد قاصف.
- هراء.
فرح
إلى الشاعر طرفة بن العبد
لا أحد يقدر أن يتصور فرحه، تماماً مثلما يفعل فلاح مغتبط ببيدره وهو يذروه في طوايا الريح لتتساقط كما الرطب الجني اللذيذ أكداساً من زهوٍ ولذةٍ وسحر، هو الأن يسوط حصانه كقائد منذور للظفر، يحاول أن يجندل الشفق والظهيرة والغسق، في رحلة مأمولة ضاجة بكل أمائر الرفعة والسيادة والملك.. بصره الذي أجهده في استجلاء الأفق بحثاً عن أرض ممرعة بآمال وطموحات يحسبها في طوايا فؤاده، ويحاول أن يكمّمها بقمقم سليمان، ويتحين الفرصة للإعلان عنها في حينها، وهو يتخيل نفسه مخدوماً تنصاع له هامات الأوادم والأشجار والغيم، وما عزّز رغبته تلك الابتسامة التي تآزرت مع أسنان بيض نضيدة، وعينين بارقتين عميقتين تهيمان تحت جبين محزز يستعير من السمرة أوارها، وشفتين تنبتان صوتاً له جرس عميق يتصادى مع نبرة فصيحة غامضة صائتة...
- هذا هو كتابي الى حاكم الولاية..
وبعد ابتسامة عصية على الإدراك قال الجالس على الطنافس.
- وقد أوصيته أن يهبك ما وعدتك به.
ويغيب وجه السلطان في ثنايا الصوت الهاطل على كفل الحصان، وتتعاقب أمام وبجانب ناظريه الوهاد والتلال والكثبان، وأيضاً القرى والمدن والزيتون والتين والنخيل، وكفه تتحسس الرسالة الممهورة، وحين مرت سبابته تتفحص البدن الصقيل للرق تلبسته حالة شك، عمقتها ريبة قريبه الذي آب إلى الضياع مسكوناً بالترقب والشك والنية، فعانقته ارتعاصة انتشرت من رؤوس أصابعه حتى رأسه مروراً بصدره، وغامت الرؤى أمام لواحظه، وتسابقت هواجسه تحاول اقتحام الملفوفة لدّك أسوار الرسالة ، فخارت فيه القوى الجسدية والعزيمة الذهنية وهي تحاول يائسة في محاربة الرغبة الملّحة في فض الختم السلطاني، وبالكاد سحب اللجام وتماسك منادياً قواه وجنانه، ترجل عن الصهوة، ومد يده نحو دلو الماء المربوط أسفل السرج، عب منه وبعسر بالغ جرعة كبيرة، كان روح الماء يتسرب إلى حجيرات جسده مثل رشة مطر تدخل أشداق أرض افترسها القحط، إستلقى في فيء شجيرة متشابكة على ظهره جاهداً في اقتناص أنفاسه المتهدجة، وبعد أن أينعت روحه وعاوده جأشه، وتلّبسته روح المغامرة التي عُهد بها، قوّض الختم السلطاني وأعتق الرق، قرأ.
- حال استلامك كتابي هذا حزّ نحر حامله.
شبع
صداح، لا.. ليس صداحاً، بل هو صوت منغم ناشز يجسّد القبح بكل أبعاده، يتسلل خلل الباب الزجاجي للمقصف، تنغيم جعله يعيد النظر في ذلك الانسياب السلس الباذخ في تواشج سيامي بين الكلمات التي سلبته ألبابه حالما وقعت عيناه على الورقة المزدهية بمعانيها السامية العذبة، وبين ذلك اللحن الذي ترقرق من طوايا رحم احساسه المحترف، فبشّر البلبل النسمة، والنسمة قطرة النيل، والنيل أفاريز البيوت الطينية في القرى التي تجدل ضفائرها وحسن طوالعها للفجر القادم، وأنشأت تينك الفرى ترسل إشاراتها للمدن، فغنت جميعاً للحلوة التي عجنت في الفجرية، وللصنايعية الذين ارتحلوا بحثاً عن الرزق من الفجرية......
وانطلقت من فمه صرخة موجعة ملتاعة تنعي الجمال الذي نحرته نصال أصوات مبحوحة نشاز غاطسة بالغنج الرخص والنبرة الخليعة تحت رقعة الهزيع النافق من الليل... وهدير الهتافات المتخمة بالعنة وهي تطعن طرّة فجر جديد في جمار نابضه، فيشعر بوخزة حارقة جوار ثديه الأيسر، وقبل أن يتهالك على أقرب حاجز حديدي يسّور محيط المقصف المضيء يهرغ إليه رفيقه الذي يشبهه في كل شيء حتى سترته التي فقدت أحد أزرارها، ويهمس بمحبة صادقة.
- تماسك يا رجل.
ويستلم من طواياه إشارة عاضدة تختلف عن التهكم الذي به مذ رافقه في طرة الليل، وبعد أن يجلسه على الرصيف يأسر له.
- ليست جديدة عليك يا توأم الشظف والجوع.
وبعد أن ربط جأشه، هتف به.
- بغل حرد.
نظر إلى شبيهه النزق وقال بحدة.
- كل شيء زائل أيها الند الطيب، الذي يبقى فقط هو....
وينهض بفرة الشباب ويشدو.
يللا بنا على باب الله... يا صنايعية
فترمقه العيون الثملة الراكدة فوق الأعناق التلعاء الأنيقة، والعيون الزجاجية للمصابيح التعبة التي تنتظر انبلاج الصباح كي تغرق بالكرى، ويغرق شبيهه في لجة ضحك هستيري وتخرج الكلمات من بين شفتيه مهدهدة.
- استيقظ أيها الحالم.
ثم يضع كفه حول صلمة أذنه يقول بصخب.
- شارع محمد علي كله يصدح برائعتك ويتنعم بثمر سهر لياليك وساعات التعب والإبداع.
وبعد ضحكة طويلة.
- ومعدتك يفريها القرى.
ينهض وتتخاطف خطاه نحو نده، يمسكه من تلابيبه ويهزه بعنف هاتفاً.
- كلنا مائتون بعد حين، إن إملاقاً أو تبطراً، والذي يبقى حسب هو هذه الملحمة.
يضحك الآخر بنزق طفل حرون ويحاججه.
- أنت تبدع والمتطفلون تملأ كروشهم من ابداعك، وانت تملأ كرشك بالخواء. اشبع بمبادئك أيها الحالم.
ويد عضلة قاسية ترفعه عن الأرض وتدير جسده نحو مصدرها ليتفاجأ بقامة عملاقة سمراء بعينين تنثان شواظاً وغباءً، وصوت كقرع الطبول.
- أيها المتسول. ماذا أفعل بك؟
يزجره بصوت استغرب هو نفسه نبرته الواثقة.
- انا لست متسولاً أيها الأبله.
ويرمق صنوه المستلقي على قفاه من شدة القهقهة، فيزجره صارخاً.
- تافه.
ثم يلتفت إلى العضل ويقول بثبات.
- أنا ملحن هذا الأغنية.
و....................؟؟؟!!!.