تتنوع طُرق الإثراء وأساليبه، فثمة طرق عوجاء وأخرى مستقيمة، وما بينهما طرق متعرجة أو احتيالية تدخل العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة لاعباً مهمّاً فيها. مصطفى تاجر عملة يملك مبلغاً لابأس به للمتاجرة بالدولار ضمن حدود بورصة الكفاح، جمعهُ ذات مساء لقا
تتنوع طُرق الإثراء وأساليبه، فثمة طرق عوجاء وأخرى مستقيمة، وما بينهما طرق متعرجة أو احتيالية تدخل العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة لاعباً مهمّاً فيها. مصطفى تاجر عملة يملك مبلغاً لابأس به للمتاجرة بالدولار ضمن حدود بورصة الكفاح، جمعهُ ذات مساء لقاء مع اصحاب شركات تحويل مالي وموظفين كبار في مصارف أهلية، وعلى شاكلة عادل إمام في مشهد من مسرحية "الزعيم"، وهو يسمع أرقام الأرباح اليومية، ذُهِل مصطفى من حجم الربح اليومي وتنوّع طرق ذلك الربح، وعبر أحد الأشخاص من الذين تعرّف عليهم في تلك الجلسة التي كانت حفلة زواج لابن أحد الموظفين الكبار في مصرف أهلي، دخل مصطفى اللعبة والربح من بوابة (الصكوك الطيّارة) التي جنى بها في غضون فترة بسيطة أضعاف ماكان يربحه من المتاجرة في البورصة...
شهرياً 50 مليون دولار ربح
"الصك الطيّار" هو تعبير عراقي خالص جديد لمعاملة مصرفية صحيحة وسليمة ومعترف بها عالمياً، فالصك الطيّار بلغة المصارف يسمّى بـ (الصك المصدّق) في العراق أو (الشيك المصرفي) في الدول العربية أو الـ (Bank Draft) على المستوى العالمي، ولكن أين التلاعب؟ وإذا كانت هذه المعاملة صحيحة، فهل تحدث أيضاً في دول أخرى أو مناطق أخرى في العالم؟ وإن لم تحدث في دول أخرى، فلماذا تحدث في العراق؟ عن هذا يقول وزير الاتصالات الأسبق محمد توفيق علاوي، الجواب بشكل جداً مختصر، إن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث في أيّ دولة أخرى في العالم غير العراق، ولسببين أساسيين، حيث لخّص أولهما بسياسة هدر الأموال في العراق والتي تبلغ حوالي (١٠٠) مليون دولار في اليوم، وهي سياسة مستمرة ستفرغ احتياطي البنك المركزي خلال فترة سنتين، حيث سينهار حينها الدينار العراقي وسينهار الاقتصاد العراقي. فيما السبب الثاني، هو سياسة التمكين لسرقة الأموال وبمعدّل خمسة إلى ستة ملايين دولار في اليوم الواحد من أيام نافذة العملة في البنك المركزي، وهذا الرقم سيتضاعف بشكل كبير كلما زاد الفرق بين سعر بيع الدولار من قبل المصرف وبين سعر الدولار في السوق (السعر الموازي). ويوضّح علاوي، أن الصك الطيّار، هو عبارة عن وسيلة يستطيع فيها الشخص الذي لا يملك مالاً من السرقة، عوضاً عن سرقة الأشخاص الذين يمتلكون المال الوفير.
لكن كيف يكون ذلك، يقول علاوي: يقوم مصرف الرافدين، على سبيل المثال، بإصدار صك مصدّق (صك طيّار) بمبلغ (٢٤) مليار دينار كاذب من دون وجود أي مبلغ في حساب الشخص المحتال، وذلك بالاتفاق بين المدير وبعض الموظفين لمصرف الرافدين والشخص المحتال. متابعاً: ويعطي هذا الشخص المحتال الصك المصدّق للبنك المركزي، ويأخذ قباله مبلغ (٢٠) مليون دولار، ثم يقوم بتصريف هذا المبلغ في السوق كل دولار بسعر اليوم، ثم يعود ويضع (٢٤) مليار دينار في حساب البنك المركزي في مصرف الرافدين، فيبقى لديه ربح بمقدار لايقل عن (٢) مليار دينار خلال ساعات، فإذا كرر هذا الشخص هذه العملية كل يوم فإنه يحصل على ربح بمقدار (٥٠) مليون دولار خلال شهر واحد، وهكذا تكون السرقة.
المقاصة الإلكترونية أحد الحلول
المحكمة المتخصصة في قضايا النزاهة ببغداد ساهمت في إيقاف "نزيف" مالي كبير طال المصارف الحكومية والأهلية بعد عمليات سرقة وتلاعب مارسها موظفون "متواطئون" من خلال نظام "المقاصة الإلكترونية. وفيما كشفت عن أن عمليات سحب أموال طائلة بموجب صكوك لا تحمل أرصدة أدت إلى إفلاس بعض المصارف، بيّنت أن إجراءاتها أسهمت في معالجة الخلل وإيقاف صرف نحو 800 مليار دينار. وعن قاضي أول محكمة تحقيق النزاهة في بغداد، محمد سلمان، قال إن "القضاء العراقي ومن خلال إجراءاته، عالج مشكلات المقاصة الالكترونية لعمل المصارف سواء الأهلية أم الحكومية، مضيفاً أن، التعامل مع النظام تسبّب في ضياع أموال طائلة نتيجة الإفادة من الخروق التي كانت تحصل فيه. مشيراً الى أنه، تم القبض على العديد من الموظفين المتواطئين، وإن أحكاماً قضائية طالت متورطين بعقوبات وصلت في بعض الأحيان إلى السجن المؤبّد. ويشدد سلمان: على اهمية المقاصة الالكترونية، وعدّها "من الأنظمة المتقدمة جداً يجري التعامل بموجها على الصعيد الداخلي فقط"، متحدثاً: عن ايجابيات كبيرة تحققها للنظام المصرفي العراقي، لولا تلاعب موظفين أدى إلى حدوث عمليات السرقة. معرفّاً: المقاصة الالكترونية، بأنها نظام يمكّن المصارف المشاركة فيه وفروعها من تبادل أوامر الدفع فيما بينها بطريقة آلية، دون المرور بالإجراءات المعقدة والروتين السابق اختزالاً للوقت والجهد من خلال الاعتماد على التطور التكنولوجي. لافتاً إلى أن، النظام المتقدم يستخدم لأغراض عدّة: أهمها في تبادل الصكوك الالكترونية المرمّزة بالحبر الممغنط. مبيناً: من خلال الاحتفاظ بالنسخة الأصلية من الصك في الفرع المودع فيه وإرسال صورة منه وبياناته إلى مقر الإدارة العامة للمصرف. موضحاً إن، تشغيل المقاصة الالكترونية بدأ فعلياً داخل العراق في أيلول من العام 2006، للمساهمة في تحويل المبالغ بين الحسابات بنحو آلي دون اللجوء إلى التعامل المباشر بالنقد لاسيما إذا كانت المبالغ كبيرة ويتعذر نقلها مباشرة.
التعامل المباشر واعتماد البضاعة
يعلل المختصون شيوع ظاهرة الصكوك الطيّارة والكاذبة أو تلك التي بدون رصيد الى قدم النظام المصرفي العراقي قياساً بالأنظمة المصرفية في الدول الأخرى، فضلاً عن تواطؤ عدد من الموظفين في المصارف الأهلية والحكومية وعملهم بمزاد العملة لأجل جني الأرباح السريعة. ويقول المختص المالي، وهاب السعدي لـ(المدى) إن جشع البعض وعملهم على الربح السريع جراء المضاربة اليومية بمزاد العملة واستخدام (الصكوك الطيارة) ترك أثره على العملية المالية واحتياطي النقد العام. لافتاً الى أن، أغلب هؤلاء المضاربين في سوق العملة لا علاقة لهم بالتجارة الدولية للعراق أو عملية الاستيراد اليومية التي هي الأخرى تهدر أموال البلاد من العملة الصعبة.
ويوضح السعدي: إن الصكوك الطيّارة بمثابة حيلة مالية متفق عليها بين عدّة اطراف تتقاسم الأرباح التي تُجنى بساعات وربّما أيام. مردفاً كلامه بالقول إن، البعض يقوم بإيداع الصك يوم الأربعاء على أساس صرف يوم الخميس، لكنه يتأخر متعمّداً، مسترسلاً: ثم تأتي العطلتان الجمعة والسبت، يوم الأحد تأخير أيضاً، ليقوم بإيداع المبلغ يوم الاثنين بعد بيع الملايين من الدولارات التي تم شراؤها بأموال الدولة، ولنقل أموال الشعب. مؤكداً إنه في أحيان عدّة، يلجأ المضاربون بالمزاد والعملة الأجنبية الى حيل وخداع وتزوير في مستنداتهم من اجل الدخول في مزاد البنك المركزي.
وعن الكيفية التي يمكن بها معالجة أو مكافحة الصكوك الطيّارة، ذكر المختص المالي: أولاً يجب تحديث النظام المصرفي العراقي وفق آليات متطورة مع الاعتماد على الاعتمادات المستندية للتجارة الخارجية والاستيراد. موضحاً، إذ يقوم المصرف بدفع الأموال مباشرة الى الجهة المستورد منها أو تحويها عبر اعتمادات مصرفية بدل اعطاء المبلغ وفق ما يقدّمه التاجر الذي غالباً ما يبحث عن ربح إضافي.
مبدأ اعرف زبونك يا مصرف
ويقول عضو اللجنة المالية في مجلس النواب، مسعود حيدر، إن هناك بعض الأشخاص يقومون بالتواطؤ مع بعض المصارف بإيداع صكوك لدى هذه المصارف، وهو لا يملك أي رصيد من اجل المشاركة في مزاد العملة، ليشتري الدولار ويبيعه خلال ساعات قليلة، مستفيداً من فرق السعر بين البنك المركزي والسوق بهدف ربح الملايين من الدولارات، مبيناً أنه، بعد ذلك يقوم البنك المركزي خلال 48 ساعة بإشعار المصرف بتحويل مبالغ الصك، ليقوم ذلك الشخص بإعادتها قبل هذه الفترة بدون أن يتم كشفه وكأن العملية قانونية.
ويسترسل حيدر بالقول: إننا لا نستطيع أن ننكر أن هنالك مبالغ كثيرة كانت تذهب للخارج بذريعة استيراد البضائع ولا تعود، وما أثبت هذا الأمر هو أن واردات الضرائب أقل بكثير مما هو مسجّل من أرقام لمبالغ تم تحويلها للاستيراد. مضيفاً أن، هناك معايير دولية وضعت من قبل البنك الدولي للتعامل مع احتياطيات الدول لضمان قوة عملتها المحلية، لافتاً إلى أن، الاحتياطي كان يغطّي ستة أشهر من استيراد الدولة أو موازياً للكتلة النقدية المحلية الموجودة، أو يغطّي القروض الخارجية لعام كامل، فهو يعتبر جيداً ضمن تلك المقاييس".
وعن إجراءات البنك المركزي بهذا الشأن، ذكر مصدر مخوّل من البنك لـ(المدى): بعد تشغيل نظام المدفوعات، لم تعد هناك صكوك طيّارة منذ ٢٠٠٩ تقريباً، مردفاً: لأن النظام لا يقبل تمرير صك بدون رصيد. متابعاً: أما الكلام عن الهدر وغيره قد تتعلق بفساد من نوع معين. مضيفاً: فنياً وعملياً، لم يعد الصك ممكن الصرف ما لم يكن للساحب رصيد يغطّي قيمة الصك، والصك الطيّار يعني تمشية صكوك واستيفاء مبالغها رغم أن ساحبيها ليست لديهم أرصدة كافية.
وعن ما يُشاع من هدر في الأموال، وصل الى نحو 8 مليارات دولار في العام الماضي. إذ قال المصدر البنكي: الفاسدون لا يعدمون سبل إهدار المال، لافتاً الى أن، هناك وسائل تزوير المستندات ووجود داعمين في المناطق الرخوة في المنظومة العامة للمعاملات ينفذون منها. منوهاً: مثلاً المستورد يتفق مع المصرف ومع الكمارك على تقديم تصاريح مزوّرة بادعاء ادخال البضاعة، لأن البنك يعتمد على المصرف بالدرجة الأولى وهو المعني بمبدأ اعرف زبونك.
أسباب الإصرار على المزاد
سبق وأن تم الكشف عن بلوغ الهدر في احتياطي البنك المركزي بسبب "الصكوك الطيّارة" نحو 8.5 مليار دولار في غضون الأشهر الستة الماضية فقط. ويقول مصدر مالي: إن هذا الهدر يأتي بالتزامن مع انخفاض إيرادات الدولة من النفط، واقتراب انتهاء الخزين المالي بوزارة المالية.
وتابع المصدر، تم الحصول مؤخراً على حزمة من فواتير التجار التي بحوزة البنك المركزي، وتم اكتشاف وجود العديد منها مزوّراً، إلا أن البنك المركزي يغض النظر عن التزوير الواضح على الفواتير، مبيناً أن، أعضاء بارزين في مجلس النواب مازالوا يلهثون وراء الصكوك الطيّارة، ويرتكبون جريمة تزوير فواتير تحمل اختاماً رسمية تسهّل حصولهم على كميات كبيرة من مزادات البنك المركزي بشكل شبه يومي. وعلى الرغم من انخفاض احتياطي العراق من العملة الصعبة من 80 مليار دولار إلى 47 مليار دولار حالياً، إلا أن البنك المركزي العراقي يواصل بيع عشرات الملايين من الدولارات يومياً، وبسعر منخفض جداً قياساً بسعره في السوق. علماً أن وزارة المالية تتسلم 65% من قيمة بيع النفط وما يعادل 35% يتم إبقاؤه في وزارة النفط، الأمر الذي يطرح تساؤلاً، لماذ هذا الإصرار على مزاد بيع العملة. عضو اللجنة المالية في مجلس النواب، ماجدة التميمي، ذكرت بهذا الشأن: هناك مافيات يجب متابعتها، توصلت الى استحداث آلية محكمة يجب أن نتعاون على إنجاحها بالتعاون مع عدد من الوزارات، بعدما اكتشفت أنّ مزاد العملة عبارة عن توزيع أرباح، حيث أنّ ٢٥ بالمئة من ارباح مزاد العملة، تذهب للأحزاب و٢٥ للسرّاق والفاسدين، ٢٥ الى المصارف الأهلية، موضحة أنّ، استقطاع نسبة 4,8% من رواتب الموظفين، وهذا الاستقطاع فيه ظلم وإجحاف بحق ذوي الدخل المحدود.