يكاد ينفرد القاص، والروائي (علي حداد) بطبيعة السرد، الذي ينبع من بيئة بغدادية حقيقية، ويرسم صورة للحقبة الملكية، وما تلاها في الستينيات، وهذا ما يجده القارئ ماثلاً في روايته الأخيرة، الموسومة ، (موت صانع القبعات). ثقافة البطل:يتتبع الروائي، حركة نمو
يكاد ينفرد القاص، والروائي (علي حداد) بطبيعة السرد، الذي ينبع من بيئة بغدادية حقيقية، ويرسم صورة للحقبة الملكية، وما تلاها في الستينيات، وهذا ما يجده القارئ ماثلاً في روايته الأخيرة، الموسومة ، (موت صانع القبعات).
ثقافة البطل:
يتتبع الروائي، حركة نمو البطل، منذ الولادة، وحتى عمر الرجولة والنضج. وكأننا بوصفنا قرّاءً نرقبه ملياً، وهو يعاني التمزق، والشعور بالكدر، والاشمئزاز، لأنه يعيش في عالمين متناقضين، ومتضادين، عالم الكتب والفنون الفسيحة الأرجاء ، متحرراً من عالم الواقع المعيش المقفل بقبحه، والمرهق بأثقاله الجسام. وبالتالي، تصبح دلالة الكتاب، بموقفها الرأسي، فردوساً في بنية السرد، مقابلاً أفقياً لواقع هو الجحيم بعينه كائن، يعيش بين احلام اللذة، والاستهواء، والاغراء ويفيق على كوابيس القسوة، والرعب والعقاب! . وبالتالي كان يبحث للخلاص من مأزقه هذا، فلم يجد سوى حلّ واحد، هو أن يتجاوز نفسه هو بالذات، للوصول إلى مديات على بيئته الاجتماعية المتخلفة، الصارخة بانحطاطها، وضحالتها، وتابواتها المريضة، وعاداتها العتيقة العفنة!.
وغالبأً ما كانت ثقافته دفعه لأن يتورط بالمقارنة ما بين حياة التحضر في الغرب، وحياته بيد ثلة من الناس، لا يرون أفقاً للحياة، يتجاوز حدود المقهى، والمحلّة! وينظرون لعوالم الغرب، وكأنها مجرد ظلال، وأشباح، وأوهام كافرة! رغم أن الكثير منهم، يندرج تحت فئات المرضى، والمضطربين بما ينطووّن عليه من اعراض (سادية) و(مازوكية) قد جبلت عليه هذه الكائنات بحظوظها العاثرة. يحاول الروائي، أن يزجّ القارئ، بسيل من الحوارات بمعزل عن مرجعيتها – في الغالب – وعليه أن يعاود القراءة، مرّة بعد أخرى، لكي يبرمج عائدية "التفوهات" هذه إلى اصحابها. يشتبك "السرد" في اتجاهات مختلفة، ومتصادمة تبعاً للفواعل السردية، وللأصول العرقية، والدينية وبطبائع الشخصيات السّوية والمنحرفة، وبجرأة فضائحية مكشوفة، لا تبقي ولا تذر!
فهي حافلة بالكشف عن العلاقات الخطية، وفضحها، وإشهارها، أمام الملأ، لأنها تشكل نسيج الواقع نفسه، وشبكة علاقاته المترابطة تأمل – منذ البدء – اسم المقهى (خدا داي) وهو يدللُ على مكوّن عراقي أصيل هو (الفيلية) ربما، أو سواهم من الأعراق الوطنية:
"كان يجلس في مقهى خداداي يدخن، ثم حضر المشهد الاستهلالي للسرد، بالآتي: " شقيقه عيدو، و "مصلاوي" و" مسيح" وحديث يدور عن الكلاب، والخمور في البارات. ويلتقط الروائي، شخصية موازية للبطل، وكأنها تمثل المناقض لمشروع البطل احمد، منذ بداية السرد وحتى ختامه". "عطا احمد الحلو، بسدارته السوداء، يستمع إلى اخته "أمل" التي كان "عبود راحة" اخوها يستجدي بها في باب الشيخ أمام الحضرة الكيلانية. ثم يذهب إلى حكاية (جيقو) و(التلفون).
تتوزع مداخل الشخصيات، في الارتماء بحواضن الملذات الشرعية، والمحرّمة، كل حسب خياراته، ما بين النمو العاطفي، والحب النبيل، والدنس الغرائزي الأعمى، والفالت من رقابة العقل والضمير واليك الأمثلة: (رزوقي يرقص مع هيام يونس في ملهى ليالي الصفا) و(ليلو يغتصب امرأته) أما زغلول (فيحب ملوك بائعة الباقلاء.. ارداف صدر، مؤخرة). في حين (أحمد هبل) كاد يبكي، ويرى أفخاذ ملوك تهرب منه، وصدرها النافر يضمر ويموت ودعك عن اغفاء شفتيه على شفتيها. ولكن عطا يجد ضالته في الحمام، مع (فطم) زوجته، ويذهب اخوه إلى لبنان ليأتي بالغواني إلى الملهى ويحوم (رشك) حول (عائشة) التي نهبها بعيداً عن منطقة (الجعيفر). فضلاً عن تورط هيمان بزوجة (طالب أبو الجبن) ومن الطريف أن يسأل (احمد) جدّته عن تقبيلها للجد، فتجيبه بأن العراقيين، لا يفعلون ذلك في الشارع، حتى بعد انقضاء مليون عام، وعام هذه العلاقات، يتداولها سكان المحلة ويتداولون الاسرار: وهناك من يعرف (قصة زغلول وسعاد، واحمد ولميعة، وحسين الأقجم وحبه لأمل). وهذا في حبه لفتاة عاهرة، كادت الحيرةُ تقتله بشأنها!! ، وتتقلب نسيمة في الفراش مثل سمكة مسمومة، حتى أن أحد الازواج يخاطب زوجته: أنا رجل البيت يا زهوري.. بت الدمبكجي وآخر، يعضّ واحدة من النساء أو يقبلها من لحمها البض والنبق والمتفجر في فراش قطني، وذاك يهجم على النساء في الليل، ويرعبهن. وأخريات يقدمن (المشروب والمزّة)، أو تحوّل بعضهم إلى (ديوث) .
حتى أن عم أحمد، (عبود راحة، شاذ بالمعنى الكامل للكلمة، ويحاول حتى ، الزنى بالمحارم)!. وتقرع واحدة منهن بفنها، لأنها تتمرغ في عارها. والأخرى بجمالها، كأنها لوحة رسمها (فائق حسن). وتقتل لميعة ذلك (الديوث) مازن، لتدخل سجن النساء فضلاً عن نساء خاطئات، ينزلقن، ويتورطن بعد أن يتآمر عليهن، مثل تآمر كاظم على (بتول).
ومن بينهن من كانت تشرب الخمر في الميدان، لكنها باتت زوجة صالحة، ومخلصة.
وثمة رسالة تبعثها (لميعة) قبيل تنفيذ الإعدام، الى حبيبها أحمد، وهي تعيش مع العاهرات وفتيات الشوارع في السجن وينحط بعضهم إلى سفاح القربى، أو بعضهن يذهبن (ورحن ضحية الحملة الايمانية التي قادها صدام حسين). الولع بالغرب، وثقافته باتت تقليداً، اعتمده البغداديون حتى في التباهي بساعة (الويست أند) فهذه صورة (عطا) وهو يضع يده اليسرى على ذقنه، ليرينا ساعة تزيّن معصمه، أما البطل (أحمد) فهو (يعوم مع أسماكه، وطيوره وكتبه ومجلاته، في غرفة مليئة بالقطط والكلاب(..) و(تلك الأفكار التي تؤدي إلى السجن) حتى خاف عليه أبوه من أن يكون (خنثى)! أحمد غارق في تداعياته وأحلامه، (كانت توتي دونر انجليزية، ترتدي لباس السباحة..) أما (ويل .. كانت انجيلا تحبه) وقد عرف الحقيقة قبل هذا الشرقي، صانع القبعات). كان أحمد يتألم، وهو يرى انقراض التفرد في الفن وشيوع التفاهات بالقصص والمسرحيات، والريم والسيراميك، لذلك يشعر احمد بأنه مختلف في قيمه ومفاهيمه، وقد زار ايطاليا، واليونان، ولندن! وكان والده يقول: "كنت أظن أبني خنثى" لرقته، (وهذا مخالف لعادة، مناطقنا الشعبية) في تطلبها الخشونة والعراك والشتائم... ومن الطرف الثقافي، المقابل، يرى البعض (أن المثقفين يموتون مبكراً)، وأن (الأمية باتت حصانة للفرد) حتى اتهم الفنانون في (مقهى أبو ناطق) بالشعوذة، لذلك تذهب الفانتازيا بأحمد، إلى أن يصنع (قبعة) لـ (دوتي دونر)، وسط زحمة من كبار المثقفين العالميين، مثل: ويل ديورانت، وتشاركز، وجاك بريفير الهولندي، والفرنسي ميشال دوبريه، والايطالية صوفي، وماجري بينهم من وقائع من خمر ، وغرق، ومقبرة. ولكن أحمد يبقى رهن فوضى كتبه، واسطواناته، وصوره.. لأنه موقن بأن (علينا أن نستغل فرصة العيش، ونسهم في صناعة البهجة للاخرين). (..) وان نعيد الحرفية للفن، لأنه بلا تفرد، وبالتالي سينقرض ويهدّد كياننا جميعأً، ويتهم احمد بالتفاهة لأنه يكتب ضد الحكومة! .
المسلم، والمسيحي، واليهودي – هم من يتكلمون خلفية السرد، مثل (ابو جورج) و(جاكي عبود) الطبيب الذي يعالج المرضى النفسيين، بروح انسانية متقدّمة، فهو، يقول (لابن الحقاني): (انظر إلى عيني.. أنت شريف أكثر من اللازم، الناس تقتل وتمضي إلى شأنها وكأن شيئاً لم يكن.. أنت لم تقبل، انت في حالة رعب.. لم يكن الذنب ذنبك.. صدقني).