" كلمّا زاد الخيال ... قلّت مقاومة الألم " ليس من مقاصد ضعفٍ أو تثاؤب خمول صراحة وحقيقة ما تبتغيه هذه الوصفة الجاهزة و المُلّغزة في مفتتح تقابلات سعة الخيال و تبعات ملازمة الألم له ، أمام ضيق وضنك وجه الحقيقة التي يرى فيها عِالم الف
" كلمّا زاد الخيال ... قلّت مقاومة الألم " ليس من مقاصد ضعفٍ أو تثاؤب خمول صراحة وحقيقة ما تبتغيه هذه الوصفة الجاهزة و المُلّغزة في مفتتح تقابلات سعة الخيال و تبعات ملازمة الألم له ، أمام ضيق وضنك وجه الحقيقة التي يرى فيها عِالم الفيزياء الشهير" إلبرت إنشتاين " على إنها " محض خيال "، قبل أن يستدرك ليكمل فيقول :" رغم إمكانيّة استمراها "، فيما تبدو تطلعات وجرأة آراء الكائن المبتكر والفنّان العبقري " بيكاسو" حول ماهيّة حقيقة الفن ؟! إذ نراه لا يخشى في أن يجهر بالتصريح والإعلان عنه قائلاً: " نعرف جميعاً أن الفن ليس حقيقةً، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة".
شاء للفنّان التشكيلي " صالح النجّار" أن يُكمل " مشاوير " تطابقات وعيه على منوال مُتممات خطى خواطره التعبيريّة، و أنساق فهمه لمجمل مهاراته الإدائيّة وفق ممكنات ذلك الخيال الواسع و المفتوح بإزاء إنتباهات نظراته لما يدور من حوله من متغيرات و سلسلة أحداث وتوالي مرور وجوه وشخوص و أشرطة ذكريات، لا يمكن له حصرها وتطويقها إلأ عبر بوابة مخيلة نابضة بالحركة، مدركة لمحتويات و موجودات المحيط الذي يحيا فيه و حقيقة البيئة المعنويّة و النفسيّة التي يتقابل الفنّان و يتصادم معها خلاصة عبر خواص همس ذلك التحاور الدائم، المحسوس والمسموع ما بين شواهد وجوه شخصياته الحاضرة في ذهنه ، والغائبة عنا الى حدٍ محرّضٍ، مثير و مدهش في ذات تلاقي شكل ملامحها مع ثوابت خلجات دواخل ما تخفي وتضمر تلك الشخصيّات الثابتة و المتحركة في محور وجوهر خواطر هذا النهج الذي يتبناه، رغم اختلاف وتوالي سنوات تجربته التي تعود إلى نهايات ثمانينيّات القرن الماضي، فالبيئة في معطيّات "صالح " لا تتحدّد وتنحسر بمحتويات أشيائها العيانيّة و مصدّاتها اليوميّة والمألوفة، بل - كما لّمحنّا وأشرنا- لجانبها المعنوي و الإنساني المحض .
موسيقى روح.. تراتيل جسد
لعل سجل معارض " صالح النجّار- دبلوم تربيّة فنيّة/1987 " الشخصيّة التي تواصلت منذ معرضه الأول/1989 في مدينته" خانقين " والثاني - قاعة التحرير ببغداد/1991 والثالث في العاصمة الاردنيّة-عمّان/1997ثم الرابع في خانقين- أيضا-/2006 والخامس في السليمانيّة- قاعة المتحف ثم السادس في كركوك-القشلة /2010 والسابع والثامن 2012- 2015 في خانقين كذلك إلى جنب خصوصيات مشاركاته في معارض وملتقيات جماعيّة داخل وخارج العراق، أوشك أن يمتلئ بوحداته التتابعيّة من حيث نسق المُرونة وحمى التواصل في توحيد خطى تجربته صوب الأجساد والوجوه التي يعزف عليها معزوفات أناشيد فرح خارجي مؤطر بتراتيل حزن آسى داخلي يفيض ليغمر روح اللوحة بأجواء عاطفية وإنسانيّة متداخلة مع بعضها ومحتميّة في خشوع شعورها النفسي حين يجمعها، ليوّحدها حتى و لو كانت اللوحة لا تحوي إلأ على وجهٍ واحدٍ أو جسدِ شخصٍ " فكَر" يملأ به الفنّان فكرة أو مجموعة أفكار مواضيعه الإنسانيّة البحتة.
يرسم " صالح" بقوة عزم اللحظة التي لا تكف عن مدّه وتزويده بطاقة روحيّة وبما تشابه روحية العزف الموسيقي الصاخب في غمرة لحظات تجلّي و احتدام مشاعر حميميّة صادقة تلبي دعواتها جملة من أحلام يقظة وزحف انتقالات لحنيّة متدفقة جراء سيل مشاعر صادقة و حمم انفعالات داخليّة تزيد من شدة التلاحم والتوافق و سعة الانفتاح عن عالم آخر مختلف، و قد لا يشبه ملامح و عوالم تلك اللحظة النابضة بالفرح والألم معاً، من تلك التي بدأ منها الفنّان خلاصة التعبير عما يجول في خواطره و خزائن ذاته، المتمرّدة والخائفة من فقدان شيء ما، راح يتكررّ خفيةً في توثيقاته البصريّة دون أن الإفصاح عنها بشكل علني و مباشر، حيث نلمسه يعمد على إخفائه بين طيات وخفايا أشكاله القادرة على الوثوب والتفاعل والنمو مع نفسها في تماسك حيّ، من خلال وحدات اللوّن وليونة الخط وتثبيت بعض الوجوه في مربعات تأخذ شكل الطوابع البريديّة، وغيرها من مهارات الخلط ما بين الوحدات المتعامدة والمفتوحة لصالح غاية إحداث نوع من حالات دراميّة تتخلق هي قصصها و تُحيك خيوط ربط حكاياها على نحو متنامٍ يتسم بالقدرة على مسك قوة الشدّ الدرامي من جهة، وتقوية أواصر الفكرة الإنسانيّة الأساسيّة التي ينشدها و يتوق إليها " صالح " من الجهة الثانيّة .
الأقنعة.. تذرف الدموع
" إلأ ما أشّد ما تُخفيه الأقنعة من دموع !! " تتعثّر خطوات هذه العبارة التي زاوج فيها الكاتب والروائي ،عالم الفيزياء والرسّام " أرنستو ساباتو" ما بين سخونة الدمع كملمح وجداني- عاطفي وما بين القناع كمنحى شكلي يشي و يشير إلى جمود وجفاف المشاعر، لتنهض ثانيةً حرارة صدق تلك الخطوات التي صاغ منها هذا المشهد الشعريّ المؤثر والعميق في أتساق و أفاق دقة و رهافة هذه الصورة الشعريّة البليغة، التي نراها ترتسم و تنتظم على وجوه وسمات ما يرسم " النجّار صالح " و يرفد من ملامح تلك الأقنعة التي تذرف - بصمت وخشوع- دموع تساؤل و نزف حيرة تقابل حقيقة ما يواجه الإنسان من مصير مجهول و واقع ما تدفع به القوى الشريرة و تصدّر من حالات خوف و نيل و تعسف لتحدّ من حريته و حقيقة حقه في الحياة التي يبغي و يريد و يطمح.
شكلّت تجربة هذا الفنّان نسقاً مختلفاً عن جميع أنساق من تعامل مع الوجوه و الأقنعة من التشكيليين بدءاً من المعلّم الراحل " أسماعيل فتّاح الترك " ومن سار على منواله من الجيل اللاحق أو رهط طلاّب " الترك " أنفسهم من سلالة الانتماء لفن " الكَرافيك "، من حيث نكهة روح الشكل الذي برع يقترحه " صالح " من خلال قيمة قوة الإحساس العالي الذي يسكن دواخل أبطاله،وفي أن يسعى لان يديم من زخات نبضات ذلك الوجود التفاعلي مع جميع ما يشغل مساحات لوحاته من حضور أولئك الأبطال و محاولات حشرهم مع بقيّة الأشكال و الأجساد، سواء أكانت حشود لنساء أو مجموعة رجال أو عوائل وأطفال ليجعل منهم بمثابة مجموعات متآخية ... غارقة ... هائمة بحسب درجات شعورها الضمني، وحاجاته الماسة والدائمة للحنين و براءة ذلك الدفء العاطفي و لغة التفاهم النفسي والحسي الذي يلملّم من أجله " صالح النجّار" مجمل شذراته مخلوقاته و هو يسعى ليغمرها بشعاع و نور ضوء انهماكه الممتع ببلاغة التعبير بالجسد وبراعة الوجوه في التعبير عما يخالجها رغم غياب الكثير من ملامحها التي يتقصد الفنّان تضيعها لكي يزيد من قوة الأثر التأملي و النسق التأويلي، عبر سرعة استجاباته القادرة على تطويع جميع المواد الممكنة والمتاحة من " زيت / إكريلك / معاجين /مواد مختلفة " لصالح تدّفقاته الروحيّة و نوازعه التعبيريّة الخاصة بمفهوم تجربته المتميّزة، وتطلعات هموم وعيه الفني.