لا اعرف أن كانت رغبتي الكبيرة أم خطواتي المتسارعة هي التي قَرَّبتني منه اكثر، لكن الشيء الأكيد ايضاً، أن شوقي المحمل بعاطفة كبيرة هو ما كان يدفعني للاقتراب منه بهذه السرعة، حتى جاءت خطواتي الاخيرة في شارع (آلاموس) فمددتُ رأسي بترقب وعيناي مفتوحتان نحو ساحة (دي لا مرسيد) حيث ظهر وجه تمثال بيكاسو (١٨٨١-١٩٧٣) بين أشجار الليمون وهي تظلل الحديقة في وسط الساحة التي تشغل قلب مدينة ملقا الاسبانية. وقفت أمام التمثال الذي بدا فيه بيكاسو جالساً على مصطبة وهو يهم بالرسم، حيث ظهرت بعض الالتماعات الصقيلة على أجزاء من التمثال بسبب كثرة ملامسة الناس له. حييته وقلت له بصوت خافت ( جئت لزيارة بيتك)، لأمرر بعدها يدي على التمثال وأُكمِلُ طريقي نحو البيت الذي يبعد بضعة خطوات، والذي ولد فيه أشهر رسام في كل العصور.
وأنا أهِمُّ بإخراج النقود من محفظتي، بادرتني قاطعة التذاكر السمراء قائلة (اليوم هو اليوم الوطني للمتاحف، والدخول مجاناً) شكرتها ودخلت اتطلع لتفاصيل البيت الذي قضى فيه بيكاسو أول عشر سنوات من عمره، قبل أن تنتقل عائلته الى مدينة كورونا. تتكون البناية بشكل عام من خمسة طوابق، وكانت عائلة فناننا تشغل بيتاً من ثلاثة طوابق في طرف البناية. بدت الغرف مستطيلة وضيقة حيث وُزِعَتْ صور بيكاسو القديمة، إضافة الى مجموعة من أعماله في فترات مختلفة وتفاصل كثيرة اخرى تتعلق به وبعائلته. في الطابق الأول عرضت مجموعة من أعمال الليثوغراف التي اهداها بيكاسو للمتحف، والتي رسمها في ثلاثينيات القرن العشرين حول مصارعي الثيران وبعض تفاصيل الحياة والثقافة الاسبانية، ومن ضمنها ايضاً سلسلة من الدراسات التي سبقت عمله العظيم (غورنيكا)، وفي الجانب الآخر عرضت مجموعة من الدراسات لبداية التعكيبية، وخاصة فيما يتعلق بلوحته الشهيرة ( نساء أفنيون). وفي غرفة جانبية ظهرت صورة كبيرة لبيكاسو في سنواته الاخيرة، وبمحاذاتها عُلِّقَ الرداء الذي يضعه على كتفه في الصورة التي تظهره كمصارع ثيران، والذي كان قد أهداه للمتحف.
صعدت الى الطابق الثاني لتواجهني صورة بيكاسو وهو بعمر ثلاث سنوات ببدلة سوداء طويلة فيها أزرار عديدة، بينما ربط على عنقه شريطاً أبيضاً. كان أنيقاً ويبدو واثقاً من نفسه. ثم تأتي صورته مع شقيقته الصغيرة وهو بعمر خمس سنوات. وكذلك عُرِضَتْ في أحد الجوانب صدريته البيضاء التي كان يرتديها في البيت، وبجانبها ملابس والدته التي تعكس الطراز الاسباني في تلك الفترة، وكذلك ملابس والده مدرس الرسم الذي توقف عن الرسم بعد أن فاجأته الموهبة العظيمة التي يملكها ابنه بابلو. خطوت نحو عمق الصالة لأقف أمام أريكة حمراء كبيرة تعود لفترة (الآرت ديكو) مع كرسيين بنفس اللون، وكانت هذه الزاوية مخصصة لضيوف والده الذي كان يعتبر من الشخصيات المرموقة في مدينة ملقا.
خطوت نحو الطابق الأخير الذي كان محاطاً ببعض الشبابيك الصغيرة المغطاة برسومات الزجاج المعشق بالرصاص. وقد عرضت في الصالة الرئيسية مجموعة من لوحات ومنحوتات والده. ومن معروضات هذه المجموعة، لوحة الطيور التي رسمها والده. وهي لوحة كبيرة الحجم كان قد ابتدأ الأب برسمها، لكن لكثرة مشاغله وتواجده الدائم في المدرسة، قام بتكليف بابلو الصغير الذي لم يتجاوز الثماني سنوات، بملأ بعض الفراغات باللون على سبيل التسلية، لكنه حين عاد الى البيت، وجد أن ابنه الصغير قد أكمل رسم بعض الطيور بطريقة رسام متمكن، فأصابه الفزع وسأله إن كان بالفعل هو من قام ذلك!
تركت هذه اللوحة مع حكايتها الاستثنائية واقتربت من النافذة لأقف بمحاذاة الشرفة التي طالما وقف فيها بيكاسو وهو صغير، يراقب الاشجار والأولاد الذين يلعبون في الخارج. ابتسمت في سري ونظرت من جديد نحو الساحة، حيث يلتمع رأس تمثال بيكاسو تحت شمس ملقا الدافئة.
بيكاسو يستضيفني في بيته
[post-views]
نشر في: 27 أكتوبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...