أول ما تقع عين القارئ العراقي على العنوان، يتبادر الى ذهنه الحفل الجميل المُصَغَّر ، صينية الشموع والياس أو "كرَب" سعف النخيل عليه شموع موقدة تتلامع، ترسلها الأمهات أو بناتهن، كلٌ وأمنيتها، يدفعنها بمحبة وأمل لتطفو على الماء ويحملها. يأخذها الم
أول ما تقع عين القارئ العراقي على العنوان، يتبادر الى ذهنه الحفل الجميل المُصَغَّر ، صينية الشموع والياس أو "كرَب" سعف النخيل عليه شموع موقدة تتلامع، ترسلها الأمهات أو بناتهن، كلٌ وأمنيتها، يدفعنها بمحبة وأمل لتطفو على الماء ويحملها. يأخذها الماء ببطء جميل ولا أظن أحداً يفكر كثيراً الى أين.. إذاً الشموع تشتعل والنهر يجري بها و "الخضر"، صورة كريمة ونبيلة لا أحد يدري في أي مكان هو في الماء.
هذا المشهد المعبأ بإسطورية خصبة وبأنواع من المسرات الغامضة، ينقلنا الى ما خفي من طلبات الإنسان ورغباته المنتظر تحقيقها، الى الأفراح القريبة منه أو التي يريدها تقترب أيضاً هو يعني اننا غير منقطعين عن العالم المجهول والابدي، الإلهي والملائكي، وإننا نجدُ وسيلة لكشف محبتنا أو رغبتنا، في أضوائه، هو الغائب الذي يتراءى لنا بعيداً على الماء، نستعين بغيابه المضيء لحضور أمانينا ولنكون ناساً جيدين ما يزالون، بالرغم من كل ما يملكون، معوزين الى ما يمتلكه والنهر هو الطريق، الجميل الآمن والبهيج إليه..
من هذا العرض يتضح إن النهر في الفكر الشرقي، في المخيلة الشعبية العراقية على التعيين، يختلف عما حملته لنا أساطير وأشعار الناس من أغارقة وأوربيين، قدامى وجدد، وما أشار له مفكرون. النهر الغربي، فيما نقرأ، موت أو طريق موت أو هو النهر الزفتي أو نهر النفتالين، بلغة إدجار آلن بو، و نهر النسيان، الليثية، الذي يمضي برموزنا وبنا وبالحياة كلها الى ظلماته المجهولة او الى العدم.
هذا المجهول المخيف يختلف عن المجهول الذي يتراءى لنا أو نخاطبه في النهر الشرقي، وعلى تعيين خاص، دجلة بغداد من منطقة خضر الياس والى الخضر الجميل والمحب الذي يجيؤنا بما افتقدنا وبما نحب أن يكون. هنا على النهر، حيث النسوة المَصونات والفتيات الطافحات رغبات وشوقاً، يرسلن كرب النخل أو صواني، جمع صينية، إن كُنَّ أكثر ثراءً، عليها الشموع الموقدة والياس الأخضر الشذي وهن مطمئنات أَن استجابةً ستكون وأن عملاً روحياً خاصاً قد أُنجز. الشموع الآن تطفو على الماء ماضية، ليس مهماً الى أين، ولكن الخضر السمح الجميل والمحب سيتلقى هدايانا، هو القريب منا الذي نحبهُ ولم نره.
هذا هو ما خسرناه ! لا أعني خسرنا التقليد أو خسرنا الممارسة النسوية الخاصة، فهي ما تزال وما اختفت تماماً. نحن خسرناها في الثقافة الأدبية، خسرنا المضمون الجميل للنهر و رؤيتنا المشرقة البهيجة له، ليتلقى أدبنا النهرَ الاكتئابي، "نهر الرماد" أو "نهر الموت" أو النهر يأخذ الجمال والحياة الى العدم أو الى حيث الغرقى لحومهم تتناهشها الأسماك أو تتعفن على السواحل. النهر هناك يأخذنا ويأخذ كل حياتنا الى الظلمات. فيا لجمال الشموع تطفو على الماء ويا لمحبتنا للنهر ومحبة النهر لنا! هنا الخضر المبارك في الماء وأنواره الحاضرة تلامسنا ولا نراها. فهل اتضح الآن حجم خسارتنا؟ خسارة مضمون ورموز وفهم يتسم بالروحانية والمحبة وبصلة الحب بما ورثناه و بما نعايشه ونراه. هذا ما كنا نحذِّر من خسرانه!
نعم، نعم، نفيد من قراءاتنا ونكسب جديداً ونوسع رموزنا ودلالاتنا، لكن من دون أن ننسى ان فيما نملك من رؤى ومن حميمية مع الاسطورة وفي الممارسة الروحية، ما نُحسَد عليه. فأي جمال ولطف ومباهج في مفهوم النهر لدى ناسنا وأية كآبات وخوف وأشكال موت وتهديد دائم بالفناء، فيما نقرأ عن النهر في اساطيرهم القديمة وحتى في أشعار الحداثيين. ياللرعب الذي قال به إدجار الن بو، سيد الحداثة الشعرية الأول، عن النهر! لو كان قريبا مني لأريته الشموع تطفو على الماء ومعها المحبة والافراح وانتظارات الأُمنية، تمضي الى المبارَك، الخضر، ولسمع الهمس الجميل من النساء والفتيات يودعن الشموع وكأن النهر يبادلهن البركات والكلام الجميل.
نعم، نحن فقراء ونحن محزونون من واقع صعب ونحن نريد جديداً. كل هذا نعم. ولكن لا نخسرْ مضامين رموزنا ومذاقاتنا المحلية فهي ما يتمناها غيرنا كما هي الأكثر ملاءمة للحياة ولادامة حيوية البشر.
تروي "ماري بونابرت" وهي تدرس ادجار الن بو، كاشفة الروابط التي توحد المأساوي في الحياة والمأساوي في الأدب. "في الواقع إن جنس الموت الذي يختاره البشر سواء كان من أجل أنفسهم بالانتحار أم في القصة المتخيلة من أجل أبطالهم، لا تُمليه المصادفة أبداً. هو في كل حال محتم نفسياً.."
في هذا الكلام ضوء كاف لنرى الفارق بيننا، أفراداً، وبين الأفراد وأرواحهم في الأدب الغربي وتراثه. الموت فكرة كامنة فيهم. تجد فرصتها للظهور، أو للتعبير عنها، في اشكال الموت المتخيلة و في الموت المرئي. أعني في مجرى الأحياء للموت أو للغياب. النهر عندهم هو "الليثية" ، نهر النسيان. فالشمس تنطفئ والجمال سيغيب فيه. و"هو العنصر المولّد للسوداوية."كما يقول هاوسمان وهذا، كما هو واضح، بعيد عن رؤانا وأرواحنا الشرقية. نحن مهما اكتأبنا أو استأنا، لسنا كذلك. وإذا كان، فهو تأثير القراءات. نحن نبحث عن المسرات والفرص الجميلة والراحة على شواطئ الانهار. ونحن نرسل على الماء شموعاً مشتعلة تحمل أمانينا. النهر وسيط مريح لاحتياجاتنا. هكذا نصنع أحلاماً، جواً احتفالياً وقربى غائبة. وهذا يرسم اتجاها رحباً، مخالفاً تماماً لجو النهر ومضمونه الكارثي في الأدب الغربي وفي موروثه الاغريقي.
استحضار القراءة والاجواء الغربية، في كتاباتنا، تقليد لا ضرورة له. هو كريه و ليس في صالح الناس ولا في صالح الحياة. في الشرق الناس يتطهرون بالماء ويفرحون بلألائه ومذاقاته، فهو عذب وهو سلسبيل ومنه كل شيء حي . فكم هو الفرق بين المفهومين الأسطوريين !
في الطريقة نفسها يمكن أن نتحدث عن الريح والجمال. هناك جمال يفضي الى الموت أو هو سبب للموت والريح ليست نسائم تأتي من حي الحبيب حاملةً شذاه أو نغمات صوته الطرية المبهجة ..
التقليد والمحاكاة في المضامين يختلفان عما في الأساليب. في المضامين خسارات قد لا تعوض كخسارة امتيازنا البهيج واللامثيل له في النهر. نعم، ثمة ما نفتقر إليه لكن هذا لا يعني أن لا يكون لنا ثراء مفرح من الخيالات والرموز والمعاني الحلوة، تلك التي تجعل الحياة جميلة وتمنحنا حيوية تجديدية وخصباً لا ظلمات وموتاً . ليس دائماً ما عند الآخرين أفضل أو أجمل مما لدينا..