أكثرَ المشتغلون في السياسة العراقية مؤخراً من تداول مصطلح جديدٍ، اسمه (الرثاثة) وواضح أنه من افرازات السياسة الخاطئة في الإدارة وتفشي الفساد في الدولة العراقية. والرثاثة في اللغة تعني الخُلق الخسيس من كل شيء، وهي أيضاً، الخَلِقُ البالي من الثياب، وبشكل عام هو مصطلح جيئ به لينسجم مع مفاصل كثيرة داخل الحياة العراقية، إذ يمكننا اطلاقه على التعليم والصحة والمالية والجمارك والأمن ... الخ. بل ويدخل في كثير من العلاقات المجتمعية، فالجيرة السوء نوع من الرثاثة والصحبة السيئة أيضاً والسلوك السيء رثاثة أخرى، وهكذا.
منذ نصف قرن ويزيد وأنا أسمع صوت رجل يدخل زقاقنا الصغير وهو ينادي بالعبارة " مِنْ عنده عتيك للبيع، كواني للبيع، بطوله للبيع، فافون .." كنت طفلاً، آنذاك، وحين أطلُّ من فتحة الباب الموارَب، أجده ملثماً، فتنهرني أمي، تأمرني بالدخول، قائلةً: قد يكون هذا لصاً. لكن الناس تبيعه أغطية قدور مبعجة واكياس رز او طحين ويشتري منهم قناني الشربت والحليب والبيرة والعرق... كانت مهنته رثة من وجهة نظر اجتماعية، وهو رجل مريب، ملثمُ دائما، وثيابه وسخة، وغريب عن المنطقة، يأتي مشياً، حافياً، ثم تطوّر قليلاً، ربما أصبح أقل رثاثة فركب دراجة هوائية، وبعد سنوات صار يجيئنا بعربة وحصان، هو يستقل ستوتة الآن، لكنه ظل ينادي بجملته نفسها، عتيك للبيع، بطوله، فافون،كواني..).
في الفترة تلك، كانت الدشداشة ثوباً متخلفاً، عند الجيل الجديد، وعنواناً لبنية اجتماعية دنيا، فقد كانت المدينة تسرع خطواتها باتجاه التحضر والتمدن، ولم يكن اللباس الافرنجي غريباً عليها، فقد ألفه الناس منذ العهد التركي، ووجود الرجل في السوق والمدرسة والشارع ودور السينما والنوادي الاجتماعية يتطلب أناقة مضاعفة، لذا تراجعت الدشداشة كلباس تقليدي بين الشباب خاصة، عند آبائنا المولودين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لم تكن ليرتديها أحد، هناك طبقة موظفين جديدة نشأت ألقت بأناقتها على الحياة بعامة وأسست لنمط معيشي مختلف، سمته التمدن في الثياب والأحذية والأربطة والحِلاقة وكل ذلك من متطلبات الحضور والوجاهة والتساوق مع شعوب العالم.
لا نتحدث عن الدشداشة بوصفها لباساً دينياً، كما هي عند البعض اليوم، مثلما لا نتحدث عنها بوصفها لباساً خليجياً يوحي بالثراء(متى كان الخليج مظهراً متقدماً) في العراق، لكننا نتحدث عنها معروضة في محال بيع الملابس في الكرادة، وسط بغداد العظيمة، في اعتقاد مفاده انها لباس يعني في بعض تمظهراته الغنى والأناقة والثراء والسيارة الفارهة، حيث يحرص البعض على جعل محفظته ثقيلة في جيبها الجانبي في إيحاء واضح بما يملك من دولارات.
كنا في باص نقل الركاب، خارجين من بيتهم الأول، في حي أور بالثورة، أنا وصديقي الشاعر والاعلامي عبد الزهرة زكي ذات يوم من أيام الحصار، وكانت مجموعة من الرجال يغذون السير أمامنا باتجاه وسط بغداد، يحملون أكياساً فارغة (كواني) سألته عنهم فقال: " هؤلاء عتّاكة. وأردف بتهكمه المعتاد: عتاكة اليوم تجار الغد". لا أقلل من شأن مهنة ما، فالحياة العراقية فيها من الضيم والجور ما يغنينا عن السخرية والتهكم، لكن طبقة العتاكة هذه ظلت منتجة لنوع من الرثاثة. وربما صدق زكي في تهكمه.
حتى وقت قريب قد يبدو بيع وارتداء الدشداشة في سوق بالثورة، أطراف بغداد أو في أحياء أخرى في البصرة ومدن الوسط والجنوب مقبولاً، في تطابق مطلق مع واقع اجتماعي ما، لكنه أصبح مقبولاً اليوم، في أحياء كانت منطلق المدنية ذات يوم، مثل الأعظمية والكرادة والوزيرية والعشار والمعقل والجنينة والطويسة. وبعيدا عن سوء الفهم نقول: إذا لم تعنِ البذلة الافرنجية مظهراً للمدنية والاناقة والتحضر فلن تكون الدشداشة عند الجيل الجديد- بأي طريقة خيطت- أبعد من نسخ خليجي رث.
الرثاثة وهي تتمظهر
[post-views]
نشر في: 28 أكتوبر, 2017: 09:01 م