اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حسين نعمة و"التعبير الشخصي"

حسين نعمة و"التعبير الشخصي"

نشر في: 29 أكتوبر, 2017: 09:01 م

بالرغم من أن الجيل الستيني كان جيلَ كتابةٍ وكِتاب، إلا أن هناك فنانين لا شأن لهم بالكتابة والكتاب، انتسبوا إليه عن دراية مثل الفوتوغرافي جاسم الزبيدي ورسام الكاريكاتير بسام فرج، وعن غير دراية مثل المطرب حسين نعمة. وبالرغم من أني أرغب في استعادة الجميع، إلا أن بعض الوقت اليوم، طمّعني باستعادة حسين نعمة وحده. هذا الوقت أولمني فيه "اليوتيوب" على ثلاث أغان، منها اثنتان قديمتان، أحفظهما عن ظهر قلب: "يا حريمة" و"ردّيت"، والثالثة متأخرة، غناها على كبر، لم أسمعها من قبل: "بيّن عليّ الكُبُر". والأغاني الثلاث توحي لك بأنها ليست ضرباً من "التعبير الفني"، كما اعتادت عليه الأغنية العربية، بل هي ضربٌ من "التعبير الشخصي" الذي لم تختبره إلا فيما ندر. هذا البعد في التعبير ينفرد به حسين نعمة، وخاصة بعد أن طلع به على الجمهور في أغنية "يا حريمة"، في مطلع السبعينيات. ينفرد به دون مطربي الأغنية العراقية، إذا ما استثنيتُ زهور حسين. وكم كان هذا "التعبير الشخصي" ذا جاذبية بالنسبة لي، أنا الذي كنت أعتقد، وما زلت، أن "الأغنية"، في كلا التعبيرين، هي حبل السرة الذي يربط العراقي كفرد بعراقه كوطن. ويصح هذا على كل مواطن في العالم.
أغنية "يا حريمة" تعبير عن معاناة شخصية، هذا ما أوحته لنا في حينها، حتى وصلناها بشريط كابي اللون بقصة حب في حياته. كنا نقول لأنفسنا: "تأمل صوته في "وانه سـجّة دَرُب سوّاني زماني، ياحريمة"، وفي "ماني سالوفه صرِتْ بين الطوايف..". إنها تنهدات مُناشدة تخرج من قلبٍ دامٍ، تتجاوز طبيعة التعبير الخالص للفن!!". ولا غرابة أن أجد أغنية "بيّن عليَّ الكُبُر" اليوم أكثرَ مباشرةً في إبراز هذا التعبير الشخصي من كليهما. إنها حاجة مُلحّة، لا يُسهم فيها النص الشعري، ولا اللحن الذي وُضع لحسين نعمة شخصياً، ولا الأداء فقط، بل تسهم فيها الحنجرة ذاتها. لأني أشعر صادقاً أن حنجرتَه تؤدي تنهدات، أو ما يشبه التنهدات، مُستمدّةً من رئتين يلذع شرايينها الأسى كلذع دخان السجائر، ويستمدان هذان بدورهما رقةَ هذا الأسى من القلب المُحتضَن من قبلهما. إن رخامة الصوت لم تتولد من أوتار الحنجرة وحدها، إذن لكانت "تعبيراً فنياً" لا "شخصياً"، أجده لدى معظم المطربين. بل هي وليدة حنجرة تأخذ عن رئتين، تأخذان بدورهماعن قلب بالغ الصدق في اعترافه.
حين يحلو لي أن أستمع إلى حسين نعمة فعن حاجة شخصية، ولذلك أُفضل أن أسمعه منفرداً. مع الأغنية العراقية والعربية عادة ما يحلو لي أن أستمع لها مع الجماعة. ولعل هذا الميل ينتاب كثيرين، ولذلك لا أشعر أنها حاجة للطرب الجماعي، بل للتعبير عما هو شخصي. ينفرد به الفرد وكأنه قد خُص به. إن العيون قد تبتل أحياناً بفعل الافتتان بـ "التعبير الفني" الجمالي للغناء، وهو الأمر الأكثر شيوعاً مع الموسيقى الشعبية. وخير مثال لهذا "التعبير الفني" أجده في أغنية لميعة توفيق: "هذا الحلو كاتلني، يَعمّه". ولكن العين لا تملك إلا أن تبتل بفعل الاستجابة عن طواعية لـ "لتعبير الشخصي". ثمة نبش هنا لتربة الروح المغتربة، المخضبة بمشاعر الفقدان. في الجيل الذي سبقني كان ثمة من ينتصر لفريد الأطرش بفعل الدافع الرومانتيكي المليء بالأسى ذاته، وكان محبوه يفضلون أن يطلقوا عليه اسم "وحيد"، بالرغم من ميوعته العاطفية، لأنهم كانوا يجدون فيه هذا "التعبير الشخصي" الذي يخصهم، مقابل "التعبير الفني" الذي تتألق فيه حنجرة وأداء محمد عبد الوهاب.
حسين نعمة في هذا يُقرن بزهور حسين، التي سبقته. من يصغي لبعض أغانيها يُحس بأنها تُغني لنفسها، أو تغني له شخصياً. إن بحة صوتها ليست نتاج زخرف فني في أوتار الحنجرة، بل نتاج ندب سابق أو صرخة شاكية يألفها العراقي عن أخت أو أم. ويبدو أن الكثير من قصائد وألحان أغانيها إنما وُضعت لها خصيصاً. وهو ما أحسسته مع أغنية "ياحريمة"، و"بيَّن عليَّ الكُبر".في الأغنية الشعبية يبدو لي هذا "التعبير الشخصي" استثناءً. وحسين نعمة ينفرد عن مغني جيله الستيني بهذه الفضيلة، ولذلك يبدو متمنّعاً، بحكم الطبيعة، عن أن يندرج ضمن تيار "الأغنية الجماهيرية" الشائعة (وهو مُصطلح يُطلق في الغرب على الأغنية التي تُعد للجمهور الضخم، الراقص، من قبل وكالات مختصة، والشائعة عالمياً وعربياً اليوم)، وعن أن يندرج ضمن المغنين الذين يأخذون حصتهم الأكيدة من الجاه والثروة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram