قبل الساعة الحادية عشرة، تصطحب أم زينت ابنها سجاد، التلميذ في الرابع الابتدائي، الى مدرسته التي تبعد عن دارهم مسافة 200 متر في منطقة بغداد الجديدة - النعيرية، وتعود بشقيقته زينب (الثاني الابتدائي) التي كانت قد أوصلتها في الصباح الباكر الى البناية الم
قبل الساعة الحادية عشرة، تصطحب أم زينت ابنها سجاد، التلميذ في الرابع الابتدائي، الى مدرسته التي تبعد عن دارهم مسافة 200 متر في منطقة بغداد الجديدة - النعيرية، وتعود بشقيقته زينب (الثاني الابتدائي) التي كانت قد أوصلتها في الصباح الباكر الى البناية المدرسية ذاتها التي تتقاسمها ثلاث مدارس، اثنتان للبنات وثالثة للبنين، فيما يتكفّل الولد الأكبر، علي (الأول متوسط) العودة بأخيه سجاد بعد انتهاء دوامه الظهري في مدرسة متوسطة تحتضن بنايتها ثلاث مدارس ثانوية، اثنتان للبنين والثالثة للبنات.
بحسب وزارة التربية فإن العراق يعاني نقصاً حاداً في عدد المدارس، فهو يحتاج إلى أكثر من 20 ألف مدرسة بحلول عام 2022. الفساد الاداري والمالي ربما كان أهم سبب للفشل في توفير العدد اللازم للمدارس، مثلما كان سبباً في وقف تنفيذ المئات من المشاريع الخدمية والاقتصادية المهمة.
معاناة الأهل من الدوام المتعدد والمتضارب ليس النتيجة الوحيدة لهذا النقص، فالعملية التربوية نفسها لا تتم بالكفاءة المطلوبة، وهذا من أسباب تردي التعليم في البلاد الى مستوى متدنٍ غير مسبوق.
على مقربة من بناية المدرسة ثلاثية الدوام، ثمّة مكتب عقارات ومقاولات، استفسرنا من صاحبه عن كلفة بناء مدرسة بـ12 صفاً ومختبرين وأربع غرف إدارة ومخزن مع الملحقات الصحية بالمساحة ذاتها التي تحتلها المدرسة ثلاثية الدوام. على وجه السرعة أجاب: إذا كانت بمواصفات ممتازة، فتصل الى مليار دينار عراقي مع التجهيزات، وإن كانت بمواصفات جيدة فأقل من ذلك، وإن كانت بطريقة البناء الجاهز أو الهياكل الحديد، فالمبلغ يصل إلى نصف كلفة الاولى. معنى هذا انه كان بالامكان سدّ حاجة البلاد من المدارس بما يقل عن 10 مليارات دولار سنويا، وهذا الرقم ربما يقلّ كثيرا عما ينهبه الفاسدون من المال العام كل سنة.
في مراجعة سريعة لموازنات السنين الماضية التي وصلت الى قرابة 1000 مليار، أُهدر وسرق نصفها إن لم يكن أكثر من ذلك، لم تُخصّص إلا نسبة متواضعة لبناء المدارس، وحتى هذه النسبة التف عليها الفساد والتهم الجزء الأكبر منها، من أيام الوزارة الأولى يوم كان خضير الخزاعي، وزيراً للتربية وملف مدارس الهياكل الحديدية، وحتّى وزارة محمد الصيدلي، التي تبنّت فكرة المدارس التشاركية دون أن توضّح ماهية هذه المدارس وكيف تُدار وتعمل..
حتّى ذلك الحين، أي وقت بناء 22 ألف مدرسة، سيبقى طلاب البلاد في الصفوف المكتظة والمدارس الطينية والكرفانية، فيما لا يزال المسؤولون في البلاد، لا يستطيعون التمييز بين مشاريع شديدة الخطورة ولا تحتمل التأجيل مثل بناء المدارس والمستشفيات وغيرها من الاحتياجات الاجتماعية الضرورية بشكل خطير، وبين المشاريع الأقل أهمية.
عندما عاد سجاد من دوامه ذات يوم من الأيام الأخيرة أخبر والدته، أم زينب، بأنَّ مواعيد دوامه ربّما ستتغير، فثمّة مدرسة رابعة ستشاركهم الدوام في بناية مدرستهم... وفي المساء تذكّرت الأخت زينب، أنَّ عليها دفع مبلغ خمسة آلاف دينار لإصلاح زجاج الشبابيك في صفّها، وختامها كان طلب علي عشرة آلاف دينار ثمن ملزمة أحد الدروس. لماذا اتجه الكثير من ميسوري الحال والشركات الاستثمارية الى بناء المساجد والحسينيات على حساب المدارس والمراكز الصحيّة؟! ولماذا لا تفرض الدولة على الشركات الاستثمارية الكبرى العاملة في البلاد خاصة في مجال النفط والغاز، بناء مدارس في أرجاء المحافظة التي تقع فيها عقودهم الاستثمارية أسوة بما يحدث في العالم؟ وكلنا يتذكر ما أنجزه كولبنكيان بهذا الشأن..