على مقربة من تقاطع شارع الأطباء في ساحة الحبوبي، يجلس الصبي أحمد، بملابسه البالية وآثار التعب والإرهاق بادية عليه، اقتربت منه امرأة مسنّة حاولت أن تفهم سبب جلوسه وحالته هذه، لكن من دون جدوى، لتكتفي بوضع مبلغ مالي بيده وتذهب أدراجها، أحمد الهارب من عا
على مقربة من تقاطع شارع الأطباء في ساحة الحبوبي، يجلس الصبي أحمد، بملابسه البالية وآثار التعب والإرهاق بادية عليه، اقتربت منه امرأة مسنّة حاولت أن تفهم سبب جلوسه وحالته هذه، لكن من دون جدوى، لتكتفي بوضع مبلغ مالي بيده وتذهب أدراجها، أحمد الهارب من عائلته بسبب سوء المعاملة ومنعه من الذهاب إلى المدرسة وإجباره على العمل الشاق، لكن حال الشارع أقسى ليعود بعد يومين إلى البيت، وهذه المرّة كان العقاب أكبر وأكثـر قسوة...
1000 دعوة قضائية ضدّ الأطفال
يقول الناشط علي عبد الحسين الناشي، مدير منظمة التواصل والإخاء التي تعمل على تنفيذ برامج مجتمعية في مجال الأسرة والطفل بالاشتراك مع منظمة اليونيسيف، إن العنف الأسري وما ينجم عنه من تفكّك بين أفراد الأسرة أخذ بالتوسع والانتشار في المجتمع، نتيجة البطالة والحروب وغياب دور الأب والمؤسسات الحكومية المعنية بالأسرة والمجتمع. مؤكداً: إن الحروب تسبّبت بزيادة اعداد الأيتام والأرامل وأسهمت بصورة كبيرة في التفكك الأسري. وكشف الناشي، عن انتشار ظاهرة التسول وتعاطي الحبوب المخدّرة بين الأحداث والأطفال، وكذلك التسرّب من مقاعد الدراسة نتيجة ضعف دور الأسرة في متابعة الشؤون الحياتية والدراسية لأفرادها. مشدداً: وجود حالات تسرّب كبيرة من مقاعد الدراسة بين الأحداث والأطفال.
وأشار مدير منظمة تواصل الى: أن عدد القضايا الخاصة بجنوح الأطفال والأحداث والتي استقبلتها محاكم ذي قار خلال أقل من عامين بلغت اكثر من (1000) دعوة قضائية، حيث تم تسجيل اكثر من (600) قضية عام 2016 واكثر من (420) قضية خلال الأشهر التسعة الماضية من العام الحالي. منوها إلى: أن أبرز القضايا تتعلق بحالات شجار وسرقات وتعاطي أقراص مخدّرة، وكذلك حالات الانحراف الجنسي . وإن معظم المساجين والمتسولين من الأطفال هم من أسر تعاني التفكك الأسري بسبب الطلاق أو لوجود خلافات أسرية أو غياب دور الأب.
تفريغ شحنة العنف
وعن أسباب العنف الأسري وتفكّك الأسرة، قالت رئيس منظمة أور لثقافة المرأة والطفل، منى الهلالي لـ(المدى) إن من اسباب العنف والتفكّك الأسري تتمثل بعدّة عوامل، ابرزها عدم التوافق الفكري والثقافي بين الزوجين والزواج القسري وتردي الوضع الاقتصادي والتدخل والتطفّل في الحياة الزوجية من قبل الآخرين وكذلك زواج القصّر. مضيفة: كما أن للعنف المجتمعي الذي يتعرض له الأفراد في طفولتهم تأثيره النفسي على السلوك المستقبلي للرجل أو المرأة، فالأب أو الأم اللذان مورس عليهما العنف في الطفولة ضمن اطار الأسرة أو من زوجة الأب أو زوج الأم، غالباً ما يلجآن الى العنف في التعامل مع أفراد أسرتهما. مشيرة الى: أن نتائج العنف الأسري كثيراً ما تؤدي الى الهروب من المنزل والى مخاطر جنوح الأطفال واتجاههم نحو الجريمة، وقد يؤدي ذلك الى الموت أو العوق ويتسبب بحالات نفسية مضرّة بالأطفال.
وباء العنف الأسري
وحذرت رئيس منظمة أور، من عدوى العنف الأسري الذي عدّته كالمرض المعدي، فهو قد ينتقل من الشخص المعنّف الى الآخرين، فالزوج المعنّف من مديره أو رب عمله، يمكن أن يُعنّف زوجته، والزوجة بدورها تعنّف الأطفال، والطفل المعنّف يمكن أن يمارس العنف على أقرانه ضمن عملية تفريغ شحنات العنف الاجتماعي الذي غالباً ما يكون الأطفال من ضحاياها.
وعن مقترحاتها للحدّ من مظاهر العنف الأسري، قالت الهلالي، إن الحدّ من مظاهر العنف الأسري والمحافظة على تماسك الأسرة العراقية يتطلب توفّر جملة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، أبرزها توفير سبل العيش الكريم وتحسين ظروف وبيئة العمل ورفع الوعي المجتمعي والتسريع بتشريع قانون عقوبات العنف الأسري وتفعيل عمل الباحثات الاجتماعيات في مجال الأسرة والمدرسة وحماية الاطفال من العمل وتفعيل قانون التعليم الإلزامي وتشجيع المعنّفين على الوصول الى العدالة ومساعدتهم في تقديم الشكوى والإبلاغ عن حالات العنف الأسري. مبينة: أن معظم النساء المعنّفات والأطفال المعنّفين من قبل أسرهم لا يلجأون الى مقاضاة معنّفيهم لاعتبارات اجتماعية، وهو ما جعل مشكلة العنف الأسري تستشري بالمجتمع والقائم بالعنف يتمادى بإيذاء أفراد أسرته.
بتر ساق وعاهات مستديمة
من جانبه قال العقيد في مديرية شرطة ذي قار، عبد العزيز أحمد محمد لـ(المدى): إن الأعوام الأخيرة شهدت ارتفاعاً في معدلات العنف الأسري نتيجة التفكك الأسري والانهيار الحاصل في جوانب مهمة من منظومة القيم الاجتماعية وغياب الضوابط المجتمعية، فضلاً عن التراجع الاقتصادي الناجم عن الأزمة المالية الراهنة. مؤكداً غياب القوة القانونية المؤثرة والتنمية الاقتصادية التي تحد من العنف الأسري. مشيراً الى: أن السيطرة المحدودة على قضايا العنف الأسري، تتم حالياً من خلال القضاء وأجهزة الشرطة التي تعمل وفق إمكاناتها المتاحة للمحافظة على النسيج الأسري وتعزيز التلاحم بين أفراد الأسرة".
وبيّن محمد: إن تدخّل قسم حماية الأسرة لحماية الأطفال والفتيات وبقية أفراد الأسرة من العنف الأسري، يأتي بناءً على طلب من أحد أفرادها أو من عدد منهم. مشيراً الى: أن قسم حماية الأسرة في ذي قار، جرى افتتاحه عام 2010، وأخذ يستقبل الشكاوى منذ ذلك التاريخ، حيث استقبل في ذلك العام نحو 50 شكوى تتعلق بالعنف الأسري، وبعدها اخذت اعداد الشكاوى تتزايد بصورة كبيرة تنذر بمخاطر اجتماعية غير محمودة. لافتاً الى: أن ابرز الشكاوى التي يستقبلها قسم حماية الأسرة، تتعلق بحالات العنف الجسدي والعنف الجنسي وكذلك العنف الاقتصادي المتمثل بحرمان الأسرة أو أحد أفرادها من المورد المالي الذي يؤمّن لها سبل العيش.
وأوضح مدير قسم حماية الأسرة والطفل من العنف الأسري: إن احدى حالات العنف الأسري تسبّبت ببتر ساق إحدى النساء المعنّفات وحالات أخرى تسبّبت بعاهات مستديمة يعاقب عليها القانون بعقوبات مشددة. مبيناً: أن العنف الأسري يطول عدداً غير قليل من الأطفال، من بينها عدد من حالات اللواط والتحرش الجنسي. مشيراً الى: أن دور قسم حماية الأسرة يتمثل بالتوفيق بين أفراد الأسرة ومنع تكرار حالات العنف الأسري، فضلا ًعن متابعة الشكاوى مع القضاء.
3 آلاف حالة طلاق
ومن جانبه دعا رئيس محكمة استئناف ذي قار الاتحادية، القاضي محمد حيدر حسين، الى اشاعة الوئام الأسري واحترام العلاقة الزوجية بين الزوج وزوجته، والحد من مظاهر الطلاق التي تنعكس سلباً على تربية الأطفال، وبالتالي تؤدي الى ارتكاب الجريمة، مشيراً الى تسجيل 2917 حالة طلاق خلال عام 2016 . مؤكداً: إن ارتفاع معدلات الطلاق في الآونة الأخيرة وهو ما يتسبّب بتفكيك الأسرة وتشريد المزيد من الأطفال. مشيراً الى: انتشار ظاهرة تسول الأطفال واستغلالهم استغلالاً سيئاً من خلال جرائم الاتجار بالبشر أو السمسرة والبغاء.
ويشدد حسين: على أهمية تفعيل دور المؤسسات الحكومية والمجتمعية ورجال الدين في الحد من ارتفاع معدلات الطلاق. مؤكداً في الوقت ذاته، على ضرورة تفعيل قانون حماية الأحداث من قبل دوائر الرعاية الاجتماعية وفتح ملاجئ للأطفال المشردين والمتسولين لغرض السيطرة عليهم ومنع انحرافهم باتجاه الجريمة. منوهاً الى أن هذه الجرائم تشكل تهديداً للمنظومة الاجتماعية.
ومن جهته قال النائب الأول لمحافظ ذي قار عادل الدخيلي، لـ(المدى) إن الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 تغافلت عن جيل كامل، وبالتالي برزت مظاهر عدائية وانحراف في السلوك الاجتماعي بين افراد المجتمع. مشيراً الى: أن هذا الجيل تعرض للتهميش والإهمال، واصبح المجتمع يعاني آفة اجتماعية ومشاكل تتفاقم وتتطلب المزيد من الإجراءات الحكومية والمجتمعية لمعالجتها. مؤكداً إن الانحراف في السلوك الاجتماعي بات يمثل تحدياً كبيراً يتطلب مواجهة حقيقية للحد منه ووقف انتشاره..
وأضاف الدخيلي: إن ادارة المحافظة اتخذت في الآونة الأخيرة عدّة اجراءات، خاصة بالتنشئة الاجتماعية وقامت بتشكيل لجانٍ لمتابعة جنوح الأطفال وتعاطي المخدرات والتنشئة الاجتماعية وعلاقة الأطفال بالمجتمع. داعياً الى تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في هذا المجال من خلال التعاون مع الدوائر الحكومية المعنية.
عنف غير مباشر
وعن مظاهر العنف الأسري، قالت الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة والطفل، شذى القيسي، إن العنف الأسري لا يعني فقط الضرب والاعتداء الجسدي، وإنما أيضاً العنف (النفسي، الجنسي، الاجتماعي، الاقتصادي والمادي) موضحة: أن العنف النفسي الذي يشمل كل محاولات إحباط الآخر والإقلال من أهميته وإهانته المتكررة، أما العنف الجنسي فقد تداخلت فيه الكثير من الأمور كالهجر وعدم التقرب، الإزدراء والتهكم على التغيرات الفسيولوجية واستغلالها للحطّ من قدر الشريك، والعنف هنا يكمن بالامتناع والابتعاد، أو الإجبار على الفعل الجنسي رغم عدم توفر الرغبة لدى الآخر.
وأضافت القيسي، كما يأتي بعده العنف الاجتماعي والعنف الاقتصادي والمادي، والعنف الذي يمارس ضمن إطار العائلة. مشيرة الى: أن المرأة والطفل العراقي بات يتعذر عليهما أن يُطالبا بالحماية في ظلّ منظومة اجتماعية تجيز ذلك، حيث أن الموروث العشائري يحطّ من كرامة المرأة ويجعل منها وسيلة لحل النزاعات العشائرية ويستخدمها كدية في الفصل العشائري .