في رصيد المغربي/الفرنسي نبيل عيوش(1969)، القادم من عالم الإعلان التجاري، أكثـر من عمل سينمائي جريء. بدأ مشواره الفني في "مكتوب"(1997) عبر دراما إجتماعية تتخذ شكل مطاردات بوليسية، تدور حول زوجة طبيب تتعرض للإغتصاب ويتم تصويرها من أجل الإبتزاز عل
في رصيد المغربي/الفرنسي نبيل عيوش(1969)، القادم من عالم الإعلان التجاري، أكثـر من عمل سينمائي جريء. بدأ مشواره الفني في "مكتوب"(1997) عبر دراما إجتماعية تتخذ شكل مطاردات بوليسية، تدور حول زوجة طبيب تتعرض للإغتصاب ويتم تصويرها من أجل الإبتزاز على يد رجل شرطة نافذ. ثم عمله النقدي المهم "علي زاوا"(2001)، يعد الأكثـر إكتمالاً سينمائياً، وفيه متابعة لحياة الأطفال المشردين في مدينة الدار البيضاء، أبطالها عصابة من صبيان الشوارع يقودهم علي زاوا الحالم بعالم البحار كخلاص من وضعه البائس.
مروراً بشريطه "كل ما تريده لولا"(2007)، عن عالم شابة أميركية تدعى لولا تقع في هوى الرقص الشرقي، إلا انها تصطدم بالرفض الحاد لشاب مصري ترتبط به أثناء دراسته في بلدها لمزاولتها هذه الهواية/المهنة. فيما يوجه نقد الشديد لتصاعد الظاهرة الإسلامية في بلده، باحثاً عن أسبابها عبر الرواية الرسمية لوقائع حقيقية في "يا خيل الله"(2012). ويشكل عمله الفاضح "الزين إللي فيك"(2015) نقطة تحول كبرى في إدانته لحالة الإنكار الإجتماعي والسياسي لها، من الصعب على السينما العربية تجسدها سينمائياً وبالصراحة التي جاءت بها مشاهد الفيلم، وذلك عبر طرق موضوع تابوهات الجنس وعلبها الليلية ومرتاديها من دول الخليج. وصولاً الى جديده "غزية"(2017) عرض في مهرجان لندن السينمائي المنتهية أعمال دورته الـ61 قبل فترة وجيزة.
الخيط الجامع بين ما سلف من إشتغالات سينمائية يعود فضله، الى ما دشنه أحمد بناني في "وشمة"(1970). إذ فتح ذلك الشريط باب التجريب لجيل متحمس من الشباب الباحث عن سينما مغايرة ومتميزة في لغتها التعبيرية، وعبر إشتغالات ذات هاجس إجتماعي ونبرة نقدية. صحيح أن عيوش من جيل آخر، عمراً وتجربة، إلا أن بالإمكان إدارجه ضمن جيل تلقف تلك الإشارة وهضمها بشكل جيد. ما تقوله النتاجات الجديدة، أيضاً، إنها حملت صوت الفنان الواقف خلف عدسات كاميرته، وداعية المشاهد للإشتراك في الأسئلة المطروحة أمامه على الشاشة الفضية وباحثاً عن أجوبة، إن كانت شخصية أو جماعية، ما أعطاها معنى ونفحة محلية مختلفتين. في "غزية"(109 د)، وعبر "كولاج" تجتمع فيه خمس مفردات حيوية يشكل المكان والزمان أهم عناصرها. الأولى تتعلق بمحنة مدرس في قرية نائية من جبال الأطلس الكبرى، حيث تطلب منه السلطات تدريس اللغة العربية لطلبته الصغار بدلاً من الأمازيغية كجزء من "تعريب" نظام التعليم(1982) ما يدعوه الى ترك عمله. فيما نتابع في بقية القصص، تدور في العاصمة الإقتصادية مدينة كازابلانكا في عام (2015) وطبيعة التحولات الإجتماعية والإقتصادية التي تعيشها. ومن خلال الشابة "سالمة" وعلاقتها برجل أعمال من محدثي النعمة، لكن الإختيار بين حريتها وحملها غير الشرعي منه يدفعها الى التخلص من ثمار تحررها بطريقة تقليدية تشي بإزدواجية إجتماعية. هذه الإزدواجية مثلما تظلل الجزء الأول نجدها مبثوثة في بقية فصول الشريط، في خيار الشاب "حكيم" وتقليده لمغني "البوب" الناري فريدي ميركوري وتقمصه لملابس وحركات مطربه المفضل وأغنيته الأشهر "حراً أريد الإنطلاق"، مقابل إستنكار وإمتعاض والده المتدين. في عالم "جو" عازف البيانو وصاحب المقهى اليهودي وما يدور حول أجواء الشريط الكلاسيكي "كازابلانكا"، وهو الجزء الأجمل، معتقداً بان ذلك الفيلم الرومانسي لم يصور في هذه المدينة المتقشفة بل في ستوديوهات هوليوود. نجده في يوميات المراهقة "إيناس" الحائرة في حسم هويتها الدينية والجنسية، فتجد في قرار خادمتها الزواج من رجل يكبرها عمراً حلاً. إلا ان الحفلة الشبابية التي تدعى إليها "إيناس"، ضمن أصدقاء بعمرها ومن الطبقات المرفهة والنافذة، يقلب التوقعات وينتهي بمظاهرات عارمة ضد السلطة والتفاوت الإجتماعي والإقتصادي في البلد.
ما حمله شريط "غزية" من مقاربات نقدية لوضع إجتماعي وسياسي في بلده بشكل عام، يأخذ على يد التونسية كوثر بن هنية(1977) "شلاط تونس"(2014) بعداً يتهم بشكل مباشر جهة حكومية وهي جهاز الشرطة. ففي جديدها "على كف عفريت"(100 د)، ترجم الى اللغة الإنكليزية الى "الجميلة والكلاب"، تقتبس حادثة حقيقية وتعيد صياغتها في قالب سينمائي. عبر تسعة فصول تدعونا المخرجة الى متابعة حكاية مريم، الطالبة الجامعية والمقيمة في سكن جامعي مخصص للطالبات القادمات من ولايات بلدها، ومن خلال تركيزها على لقطات طويلة في أغلبها. تمهد الأولى للتعرف على حياة مريم في القسم الداخلي، في الثانية تنقلنا الكاميرا الى حفل خيري حين تتعرف على شاب، وتتوالى الفصول على شكل حكاية تفتح على أخرى. أبتداءً من الجزء الثالث تتكشف حقيقة إغتصاب تلك الشابة على يد رجال الشرطة، ثم ندخل كمشاهدين الى عالم بيروقراطية الأجهزة المختصة من رجال شرطة ومستشفيات وأطباء عدليين. وعبر متابعة لعذابات تعيشها الضحية الحاملة لعارها، كما تفصح عنه نظرات من تلتقيهم إزاء تصميمها للوصول الى الحقيقية وكشف الجاني/الجناة. بين تسجيل قضية جنائية وشروط إثباتها، في ظل فقدان هوية الضحية وبعض مستمسكاتها الشخصية، نتابع الطرق الملتوية لإغلاق القضية وصعوبة نيل حقها، بما فيها التهديد بإبلاغ عائلة مريم. شريط "على كف عفريت" بدا وكأن عامل الشد الدرامي، إنْ في الحوارات او اللقطات، فقد زخمه من الفصل الثالث للشريط إذ تتكشف نهاية الفيلم وكأن النتيجة معروفة سلفاً. إذ بدلاً من الخروج بموقف إدانة شديد اللهجة لأجهزة الشرطة، قديمها في زمن الرئيس بن علي والحالي، ولفعل طالما مارسته تلك الأجهزة الكاتمة على نفوس ورقاب العباد، نجد أنفسنا إزاء دراما باردة وباهتة.
ما ترهل على يد بن هنية، تماسكت خيوطه الدرامية وبالكثير من التأني في عمل الفلسطينية آن ماري جاسر(1974) الجديد "واجب"(96 د). صاحبة "ملح هذا البحر"(2008) و "لما شفتك"(2012) تعود بنا الى مدينة الناصرة الفلسطينية. وفيها نتابع إنشغال أبو شادي(محمد بكري)، المدرس المسيحي وصاحب الحضور الإجتماعي في المدينة، وبصحبة أبنه شادي(صلاح بكري)، المقيم في إيطاليا والمرتبط بعلاقة حب مع أبنة أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية نسمع محادثاتها الهاتفية فقط، في توزيع دعوة حضور زفاف أبنته كجزء من الواجب الإجتماعي المتعارف عليه تقليدياً. ما بدا من ظاهر تلك المهمة عادياً يكشف لنا كماً هائلاً مما هو مطمور تحت السطح، إذ تتقاطع نظرة الأب مع أبنه في عدد من الأمور الحياتية واليومية. ذلك ان المقيم في أرضه والمتشبث بها والمرتبط بشبكة علاقات إجتماعية كضمانات لإستمرار حياته، ان صح التعبير، لا يجد فيها الزائر لبلده بعد غياب ذات قيمة. فان تدعو، مثلاً، شخصاً بحكم الواجب الإجتماعي، أو مطرباً يطالب بأجوره قبل حفلة الزفاف، أو قبول خطأ في دعوة يوم حفلة العرس ودفع ثمن تصويبه من قبل أهل الفتاة، أو حتى سماع أغنية مسجلة في سيارة الأب، تضع شادي في حالة تنافر مع والده على طول الخط. إلا أن دعوة أستاذ متعاون مع سلطات الإحتلال الإسرائيلي تفجر الخلاف بين شادي ووالده، الأول يرى في ذلك تنازلاً فيما الأب له رأي يبتعد قليلاً عن الشعاراتية والعاطفة. شريط "واجب" عن أرض الأجداد ومابقى منها، عن العلاقات وما تحمله من نفاق إجتماعي، أحياناً، عن واقع صاغته مخرجته بحرفية الراوي وبصنعة السينمائي، ولعل أداء محمد بكري وأبنه صلاح أضافا تألقاً لهذا العمل الممتع في معانيه.