وأنا أستقل القطار الذاهب الى الجنوب الهولندي، إستَعَدتُ مع نفسي، معرضي الشخصي (بغداد في الشمال) الذي أقمته قبل أكثر من سنتين في هولندا، وما جعلني اتذكر هذا المعرض، هو ذهابي الى ثلاثة معارض جديدة تقام في متاحف مختلفة وتقترب ثيمتها من إسم معرضي، وأهمّها المعرض الذي يقام في متحف فان غوخ بأمستردام بعنوان (هولنديون في فرنسا) والمعرض الثاني يقام في متحف مدينة دوردرخت بعنوان (هولنديون في باربيزون) والثالث في متحف مسداخ بمدينة لاهاي بعنوان (يونغ كيند وأصدقاؤه)، وهذه المعارض الثلاثة، شملت أعمال الفنانين الهولنديين الذي شدوا رحالهم في السنوات (١٧٨٩-١٩١٤) نحو عاصمة الضوء والفن باريس، أسوةً بالكثير من فناني العالم الذين تركوا بلادهم وسافروا الى مدينة الثقافة، ليستقروا فيها باحثين عن الأمجاد الفنية والشهرة والطموحات التي لا تنتهي، ذهبوا بإتجاه المدينة التي لا تنام، والضوء الذي يتمايل على صفحات نهر السين، الضوء ذاته الذي صنع عظمة ومجد الانطباعية. هكذا تحركت نحو باريس خطوات فنانين أمثال كيس فان دونغن وبيت موندريان وهندريك برايتنر ويونغ كيد وبالتأكيد فنسنت فان غوخ، وآخرين كثيرين غيرهم.
أماكن المتاحف متباعدة، لكنها تستحق أن أتنقل بينها يوماً كاملاً، لأعود بعدها الى مرسمي في الشمال محملاً بطاقة ايجابية للرسم. ففي متحف دوردرخت عُرِضِتْ اعمال الفنان يونغ كيد (١٨١٩-١٨٩١) صحبة العديد من لوحات الفنانين الهولنديين الذين جايلوه ورسموا معه. وهذا الفنان يعتبر المفتاح الحقيقي والمؤثر الكبير الذي فتح أبواب الفن في القرن التاسع عشر، ويعتبره النقاد أحد أهم المؤثرين على المدرسة الانطباعية، حيث لَفَتَ نظر الانطباعيين الى التعامل مع الضوء خارج المرسم، هو الذي ربطته صداقة وثيقة مع مونيه وبودان وبيسارو. وقد إشتهر هذا الفنان الذي عاش أغلب حياته في فرنسا، برسم المشاهد التي تمثل ضفاف الانهار، وكذلك مناظر المدينة.
وفي متحف مسداخ كان بإنتظاري معرض هولنديون في باربيزون، الذي عرضت فيه لوحات الفنانين ويسنبرغ وماريس وموف، الذين تأثروا بالضوء الدافيء للطبيعة الفرنسية، وإستلهموا اساليبهم من كبار رسامي الطبيعة هناك أمثال ميليه. وباربيزون هو اسم قرية فرنسية تجمع فيها العديد من رسامي الطبيعة في سنوات (١٨٣٠-١٨٧٠) لتتحول الى تيار فني ساهم بظهور الانطباعية.
أما المعرض الثالث الذي يقام في متحف فان غوخ فهو الأهم بينها، حيث تعرض فيه أعمال فان غوخ وبرايتنر وموندريان وكيس فان دونغن، وهؤلاء لهم تأثير كبير وخاص في فن القرن العشرين. فان غوخ ولوحاته الشهيرة التي عرفها القاصي والداني، والتي فتح الطريق من خلالها للمدرسة التعبيرية والوحشية، وكذلك استلهم آلاف الفنانين في العالم تقنيته وجرأته في اللون والمعالجة. وكذلك الفنان برايتنر الذي يعتبر أحد أعمدة الفن الهولندي، هو الذي نَقَلَ الانطباعية الى امستردام وتلقفها منه الكثير من الفنانين. وقد عُرِفَ هذا الفنان بمناظره الغائمة التي رسم فيها العاصمة الهولندية، وهناك قول شائع يستخدمه أهالي امستردام، فحين يسأل أحدهم (كيف هو المناخ اليوم؟) فيجيبه الآخر (انَّهُ مناخ برايتنر) للتعبير عن إن المناخ غائم وضبابي. ثم هناك موندريان الذي أثر كثيراً على مجمل الفن الحديث بلوحاته التي إبتدأها برسم الطبيعة، ليأخذ بعدها بتجريد الاشجار شيئاً فشيئاً، فتغيب ملامحها وتتحول اللوحة عنده الى اشكال هندسية دفع من خلالها الرسم الى ابعد خطوة يمكن ان يصلها التجريد. احتوى المعرض ايضاً على لوحات الفنان كيس فان دونغن، إبن صاحب مصنع البيرة في مدينة روتردام الذي ترك كل شيء خلفه ليذهب الى باريس، فيصبح أحد ألمع شخصياتها، وتتجمع اهم الاسماء في مرسمه الذي كان مزاراً للنساء الجميلات والموديلات وعارضات الازياء، هذا الفنان الذي رسم نساء مترفات بالغات الانوثة والفتنة والجمال، بملابس واكسسوارات تعكس روح باريس بداية القرن العشرين.
ثلاثة معارض وتاريخ واسع من الجمال، توزع بين ثلاث مدن كانت بعيدة، لكن الجمال جعلها قريبة..... والقطار ايضاً.
الجمال يُقَرِّبُ المسافات
[post-views]
نشر في: 15 ديسمبر, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...