TOP

جريدة المدى > عام > هسه في سيرته الذاتية.. الواقع مؤامرة سخيفة حاول تغييرها بالسحر

هسه في سيرته الذاتية.. الواقع مؤامرة سخيفة حاول تغييرها بالسحر

نشر في: 14 ديسمبر, 2017: 12:01 ص

في سيرته الذاتية لا يبتعد هيرمان هسه كثيراً عن أسلوبه في الكتابة الروائية، وفي شخصياته التي يبتكرها نستطيع أن نلمس تشابهاً بيوغرافياً بين حيوات تلكم الشخصيات وبين حياة هسه. فهو نافر من الواقع مستغرق في ذاته يربأ بها عن السير إلا في الاتجاه المعاكس، و

في سيرته الذاتية لا يبتعد هيرمان هسه كثيراً عن أسلوبه في الكتابة الروائية، وفي شخصياته التي يبتكرها نستطيع أن نلمس تشابهاً بيوغرافياً بين حيوات تلكم الشخصيات وبين حياة هسه. فهو نافر من الواقع مستغرق في ذاته يربأ بها عن السير إلا في الاتجاه المعاكس، ويأنف من أهداف وقوانين البشر الجمعية، ويتخذها دائماً ذريعة للمخالفة والتمرد لا بدعوى التبشير باتجاه أيديولوجي مغاير، وإنما إمعاناً في تأليه ذاتيته وتفرده، حتى وإن عرّضه ذلك للمشاكل أو سوء الفهم كما حدث معه إبان الحرب العالمية الأولى.. تلك الفترة التي يقول عنها:
"كل تلك السنوات لم ألحظ أي شيء على الإطلاق! كنت ملاحقاً، يتنصتون عليّ، ويراقبونني، وكنت موضوعاً لريبة الأعداء تارةً، وتارةً للمحايدين، وأخرى لأبناء موطني، ولم ألحظ أياً من ذلك، وقد عرفت القليل عن هذا الأمر بعد مضي فترة طويلة، ولم أستطع أن أفهم كيف تمكنت من العيش مطوقاً بهذا الجو، بدون أن أُمس بسوء أو أُصاب بأذى، إلا أن هذا ما حصل".
يتحدث هسه في هذه السيرة التي أصدرتها دار سطور مؤخراً، بترجمة الدكتورة محاسن عبد القادر، عن طفولته كما لو أنه قد عاش في الجنة. فقد كان حلمه الطفولي مفعماً بالخيال والسحر، وقد جعله ذلك يشعر بأن العالم ملكه، وإن كل شيء من حوله قُدر ليكون جميلاً وبهيجاً، ولو حدث وإن حوصر بالكآبة أو الحزن، فإنه سرعان ما ينفذ إلى عالم الخيال.. "وحين أعود منه... أجد عندئذ العالم الخارجي جذاباً من جديد وجديراً بحبي. لقد عشت طويلاً في الجنة".
لقد نفر هسه من الواقع في وقت مبكر، إذ تراءى له هذا الواقع مجرد مؤامرة سخيفة من فعل البالغين، وقد شعر، في وقت مبكر أيضاً، برفض قاطع له، وفي وقت آخر بتهيب منه أو إحتقره. لذلك تملكته رغبة ملحّة في تعلم السحر واتخاذه وسيلة لتغيير هذا الواقع السخيف. يقول هسه:"اعتبرت قدرة المرء على إخفاء نفسه أكثر القدرات أهمية وأتوق لامتلاكها بشدة، وقد رافقتني هذه الرغبة وجميع قوى السحر الأخرى طيلة حياتي، متخذةً أشكالاً عدة، ما كنت في الغالب لأستطيع إدراكها فوراً، وقد حدث ذلك فيما بعد، بعد أن كبرت بمدة طويلة وزاولت مهنة الكتابة. لقد حاولت مراراً أنْ أتوارى خلف مخلوقاتي وأُعيد تعميد نفسي، متخفياً بمرح خلف أسماء مبتكرة. وقد جعلت هذه المحاولات زملائي الكتّاب كثيراً ما يسيئون فهمي على نحو غريب ويعتبرونها مأخذاً عليّ".
لقد حلت الحرب، وهسه يسعى بيأس لحماية نفسه من سوء الحظ الذي حل به فجأة. فبينما كان الجميع من حوله يتصرفون بحماسة تجاه المأساة ويشيدون بالحرب بقصائد عصماء تصدر عن مكاتب الشعراء المشهورين، لم يكن هو يشعر بسعادة ذلك "الزمن العظيم"، بل كان بائساً أشد البؤس لما يكتبه زملاؤه من الكتّاب حول الحرب. وما أن اشتكى هسه وعبّر عن أسفه، في مقال نشره، حتى اتهمته صحف البلاد بالخيانة ووصلته أكداس من الرسائل البذيئة من أشخاص بعضهم غرباء والبعض الآخر أصدقاء قدماء. لقد اعتبر هسه سوء الفهم هذا ثاني تحول هام في حياته. أما التحوّل الأول فكان قد حدث في اللحظة التي أدرك فيها عزمه على أن يصبح شاعراً وما جر ذلك العزم على والديه من ويلات وما تلاه من وحدة وتعاسة وسوء فهم هو نفسه الذي أصبح الآخرون يحسونه تجاهه بشكل متعمد في التحوّل الثاني من حياته، ومرة ثانية رأى هسه بين الواقع وبما يرغب به حقاً هوّة سحيقة لا رجاء فيها. مع ذلك احتفظ دوماً بالأمل الخفي في أن يجتاز شعبه أيضاً اختباراً مماثلاً للمحنة التي مر بها لكي يتطهر ويستعيد براءته من جديد. وعن ذلك يقول:
"من الممكن دائماً أن يستعيد المرء براءته لو أدرك معاناته وآثامه وعانى حتى النهاية بدلاً من محاولة إلقاء اللوم على الآخرين".إن اللافت للنظر هو أن هيرمان هسه في هذه السيرة الذاتية لا يذكر إساءة الأشخاص الذين يلتقي بهم إلا لماماً. بل إنه، فيما عدا جده وأخته، لا يتوقف عند أحد ولا يشير إلى أحد ولا يسمي أحداً، وكأن الآخرين ليسوا إلا أشباحاً تمر في المكان ولا تستحق منه الالتفات أو التوقف.. فهذا جاره، وذاك طبيبه، أو مدير فندقه أو نزيل منتجعه، أو زوجته، أما جده، فهو الذي يحيل هيرمان هسه كل شيء جميل في طفولته إليه بدرجة كبيرة وإلى أمه بدرجة ثانية، فالجد يحتل منزلة مطلقة القدسية في نفس الحفيد ويصفه هسه بأنه كان ساحراً أيضاً ورجلاً حكيماً راجح العقل، يفهم جميع لغات الجنس البشري وتفيض من عينيه الحكمة مع الحزن. كان هذا الرجل، والد أمه، غابة من الألغاز بالنسبة للحفيد، ومنه جاء السر الذي يلف الأم أيضاً.. فقد عاشت هي أيضاً فترة طويلة في الهند، وكان في مقدورها أن تتبادل مع والدها الشيخ العبارات والأمثال بلغات سحرية غريبة، وكان لها، مثله، ابتسامة الحكمة الخفية.لقد لعبت الحواس دوراً حيوياً في عالم هيرمان هسه الفكري، ومع أنه قد يستسلم أحياناً لما يسميه (إغراءات العالم الغبي)، ويهمل حواسه الحادة المرهفة المتطوره والمدربة بشكل ممتاز، خصوصاً فيما يتعلق بالسمع والبصر، إلا أنه سرعان ما يعود ليجلو هذه الحواس ويثق بها ويستمد منها متعة هائلة. إذن فهو يناقض نفسه باستمرار، ونعثر في سيرته على الكاتب الذي يشبّه علاقته بالفكر بعلاقته بالمأكل والمشرب. فهو يقول عن ذلك:
"من الممكن، بعد فترة من المشي النشيط في وقت الصيف، أن تتملكني كلياً رغبة في شرب كوب من الماء لأعلن أن الماء هو أروع الأشياء في العالم، وما أن تمضي ربع ساعة من الزمن حتى يُصبح الماء أقل الأشياء أهمية بالنسبة لي في العالم".
نقلت هذا الكتاب إلى العربية المترجمة القديرة محاسن عبد القادر، وقد وظّفت لغتها الأنيقة وأسلوبها الممتع في الحفاظ على خصائص هذه السيرة، وتقديمها بشكل مؤثر وغني وجدير بالقراءة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفياض: الحديث بالخفاء ضد الحشد "خيانة"

العراق يعلن انحسار الإصابات بالحمى القلاعية

موجة باردة تجتاح أجواء العراق

بينهم عراقيون.. فرار 5 دواعش من مخيم الهول

هزة أرضية ثانية تضرب واسط

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

"حماس بوينس آيرس" أول مجموعة شعرية لبورخس

علي عيسى.. قناص اللحظات الإبداعية الهاربة

مقالات ذات صلة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت
عام

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر* ترجمة: لطفية الدليمي ما حدودُ قدرتنا المتاحة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعدُّ واقعية أمّ أنّ هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّلُ مؤلّف...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram