أحمد جواد العتابيبلنـد الحيدري شـاعر استقـل بمساحة لا يمكن تجـاهلها فـي خـارطة شعـرنا المعـاصر, وحضوره الشـعري لا يقـل عـن حضـور غيــره مـن شعراء جيـله, إذ يبـدو ذلـك واضحـاً خلال طـريقته وأسـلوبه فـي بناء قصيدته, بدءاً مـن بنـاء جمـتله الشـعرية وانتـهاءً بموضـوعاته ونظـرته إلى الحـياة والموت وموقفـه مـن العـالم والـكون.
تسعـى هـذه القـراءة إلى النظـر إلى النـص علـى أنـه ليـس مجـموعة مــــــن الألفـاظ والكلمات, إنمـا تنظـر إليـه علـى أنه مجـموعة تـراكيب مـؤلفة مـــــن ألفـاظ تـربطها عـلاقات معيـنة وانسـاق متنـوعة قـائمـة علـى نظـام لغــوي عـام قـوامه الصـرف والنـحو والصـوت والـدلالة ترتـبط جمـيعها بشبكـة مـن العلاقات الـداخلية التـي لا تتقبـل الفصـل إلا علـى حساب وحـدة النــــص وبنـائه وتماسـك عنـاصره إذ إن الفـصل بيـن المسـتويات شـاع فـي الســنوات الأخـيرة ولا سيـما فـي الـدراسات الأكـاديمية التـي تتصـدى لـدراسـة النــــص الشـعري أو النـص القـرآني. إن هـذه القـراءة تتـوخى النـظر إلى النـص بـوصفه بنـاءً لغـويّـاً أفـرغ فيـه الشـاعر - عـن وعـي - كـلّ مـا عنده مــــــن معـرفة بوساطة اللغـة, نحوها وصـرفها ومعجمـها فضـلا عــــن معارفـــــه الثـقافية والاجتـماعية والفنيـة. سـأعرض لنـماذج مـن قصـائده, لتـكون محـور القـراءة اللغـوية التـي يقـوم عليـها البحـث:rnأولا : مـن قصـيدة (سمـيراميس) يقـول الشــاعـر:سكـر الليـل ُ باللظى المخـمور ِواقشـعرت معـالم الـديجور ِوَسَـرتْ نسـمة ٌفـَهشّ ستـار ٌ واستخفته ُ ضحكـة ُ التغـريرفتنـزّى عـن غـرفـةوسـرير ٍ كـان يجثو فـي قـلبها المحـذور ِ (1)rnيلاحـظ أن النـص مبنـي علـى الجـمل الفـعلية المتـصلة بعـضها ببعـض بحـرفي العـطف (الـواو والفـاء). كمـا يـلاحظ فـي جمـلتـه الافتتاحيـّة (سكر الليلُ) أنه نسـب السـكر إلى الليـل مبيّنـًا أن السـكر كـان بسـبب (اللـــظى المخمـور) بـدلالة حـرف الجـر (البـاء). ويـلاحظ أيضـاً أن الفـعل (سكـر) جــاء بغيــر ضبـط بالشـكل. ممـا يـؤدي إلى الـوقـوع فـي الـوهم, إذ يجـوز أن يـكون مـــن بـاب (نـَـصر- ينصُـر) , سكـَر يسـْكـُر, فيـكون معنـاه (فـَتـَر وسـكـن) (2) ويجـوز أن يـكون مـن بـاب (فـر ِحَ يـفـر َح) سـكِـرَ- يسـْـكـَرْ فيـكون معنـاه (امتـلأ), ومنـه سـكِـرَ فـلان مـن الشـرب, غـاب عقـلـُه وإدرا كــهُ(3) ويـــلاحظ فـي النـص أن (الليـل والديـجـور) مـن حقـل دلالـي واحـد إذ إن الـديجور معنـاه: الـظلمة. تـقول: لـيلٌ يـجور(4) وقـد اسـتعمله الشـاعـر هنـا (اسمـا) للظـلام أو الظلمـة وذلـك بإضـافة (معـالم) إليـه .أمـا الجمـل الفـعلية :وسـرت ْ نسـمة ٌفهـَــــشّ ستـار ٌواستحفـته ضحكـة ُ التـغريـر ِفتنـزّى عـن غـرفـة ٍوسـريرٍ كـان يبحـثو فـي قلـبها المخــدور ِ rnفهـذه الجمـل المتتابعـة مبنـيّة علـى الفـعل المـاضي (صيـغة) لا (زمـناً) وهـي مـتصلة بواسـطة حـرفي العطف (الـواو والفـاء) علـى التـوالي. أي أن هشـاشة السـتار جـاءت بسـبب سـريان النـسمة, ولـذلك جـاء العـطف بالـفاء, وفـي اسـناد الفـعل (هـش) إلى (ستـار) دلالـة علـى معنى (رقّ) و (انشرح) وتقـول :هـشّ العـودُ: تكـسّر, رقّ, جـفّ(5) ويبـدو أن لفـظة (ستـارٌ) تـرمز إلى الشـاعر الـذي لـم يظهـر نفسـه فـي النـص كلـّه, فـاتخذهُ قنـاعاً إذ إن مـا بقـي مـن أفعـال كـلـّها تسـند إليـه. أي إلى (ستـارٌ), ففـي قـوله: فـاستخفتـه ضحكة التـغرير. فإن الـهاء تعـود علـى (ستـارٌ) ومعنى استخـفّ: أي استفـزّ، ومعنى التـغرير مـن غـرّ بـه تغـريـراً أي عـرّضـه للهــلكة(6) أي فاســـتفزتـه ضحـكة التـغرير.وأضافـة (الضـحكة) إلى التـغرير, للدلالـة علـى مكـرها وخبثـها. ولـذلك جـاءت الجمـلة التـي بعـدها معطوفة بالفـاء الدالـة علـى التعـقيب والسبـبية فـي قـوله (فـتنزّى عـن غـرفةٍ), إذ فيه ضمـير يـعود علـى (ستـارٌ) الذي يرمز إلى الشـاعر كمـا ذكـرنـا, والتنـزّي معـناه التـوثــّب والتـسرّع (7) وقـد عــــدّاه الشـاعر بحـرف الجـر(عـن) الـذي يـدل على المجـاوزة إذ ضمّنـه معنى (تكشّف) لأنه فـي الأصـل يتـعدى بـ (إلى), يـقـال: تنـزّى إليـه بمعـنى تـوثــّب وتسرّع(8) ويـلاحظ فـي النـص أن التنـكير هو الغـالب (نسمـة, ستـارٌ, عـرفـةٍ وسـريرٍ) إذ إن وظيـفتـه جاءت للتخـصيص (9). إذ المـراد بـ (نسمـة, وستـار, وغـرفـة وسـرير) نسمـة معـروفة عنـد الشـاعر ومثـلها سـتارٌ معـروف وغـرفة وسريرٌ فالنـص الشـعري كلـّه مبنـيّ علـى الحـركة وتـصاعدها بـدلالـة استـعمال الشـاعـر للافـعال (اقشـعـرّ- سـَرتْ - هـشّ - استـخفّ - تنـزّى) إذ إن الحركة في تصاعد فـهي تـبدو هـادئة فـي (اقشـعرتْ - وسـرتْ) ثـم تصاعد في (هـشّ) و (استخفّ) حـتى تبـلغ مـداهـا فـي (تنزّى) ثـم تنتـهي بانكسـارها وتراجعها فـي الفــعل (يجـثو) الـذي يـدل على التـوقف عـن الحـركة ثـم تـلاشيها في (قـلبها المخدور) إذ إن (خـَـدَرَ) معنـاه انـعدام الحـركة والفـتور والاستـرخاء(10).ويـلاحـظ أيضـاً أنْ ليـس للــيل مقـابل دلالـي أو لفـظي, فـلا أثـر للنـور إلا فـي قـوله (باللظى), الذي لـيس له نورٌ لأنه مصاب بالخُـمار الذي يحاصره. وبسبب هذا النـور المغـيّب أصيبت مع
قراءة لغوية في شعر بلند الحيدري ...
نشر في: 10 مارس, 2010: 04:51 م