مهدي علي الراضيمقولة الفيلسوف الاغريقي، التي كان يرددها دائما الصغار يرون ما بالكبار، بقدر ما بانفسهم من صغر، ولكن كيف ينظر الكبار الى بعضهم، او الى الاصغر منهم سناً في اقل تقدير، هذه المقولة اعادتني الى اكثر من من ثلاثين عاما، فبينما كنت ابحث عما تبقى لي من ارشيف، عثرت على صورتي معه التي جمعتني واياه ابان هجرتي الاولى عام 1975 الى بيروت،
لم اتردد ولم اشعر بالرهبة من اسمه وموقعه لاعتبارات عديدة منها انني قرأته جيداَ، وقرأت سيرة حياته، وصعلكته في شوارع بغداد وبيروت ومنها ما سمعته عنه من استاذنا الشاعر الكبير مظفر النواب، وكذلك ما رواه لي الشاعر ناجي الحازب الذي سكنت معه في بيته وقتذاك، ولعل العامل الاهم، اشادته واعجابه باحدى قصصي التي نشرتها في العدد الاول من مجلة الطليعة الادبية بمبادرة من الناقد سليم السامرائي، حيث اعتبرها من القصص المهمة.. التي تبشر بميلاد كاتب مبدع كان ذاك في مجلة (بيروت المساء) التي كان يشغل فيها منصب مدير للتحرير.. عندما ولجت باب المجلة، سألت احد العاملين عن الاستاذ الحيدري، فقادني الى مكتب فخم تزينه اللوحات النادرة، وخلفه تجلس فتاة حسناء بشكل لافت للنظر، استقبلتني بابتسامة رقيقة، وبكل لطف سألتني، هل لديك موعد مسبق معه.. اجبتها كلا، ولكن بامكانك ان تسجلي اسمي وساعود غدا او بعد غد اعطتني ورقة وقلما، فكتبت الاسم وقبل ان استأذنها بالمغادرة، خاطبتني بلهجتها اللبنانية، (يا عيب الشوم، ارتاح نسقيك شاي او قهوة).. وعندما شعرت بانها مصرة جلست بانتظار القهوة خرج الاستاذ الحيدري يسأل السكرتيرة عن موضوع ما.. وحالما لمحني سلم علي بتواضع الكبار وسألني عن اسمي اجبته ومازلت واقفا، واحتراما له اجبته بصوت خافض.. فما كان منه الا وشد على يدي، وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد، ثم ادخلني الى مكتبه، وطلب من السكرتيرة ان تلحق بنا.. وبلا مقدمات دخل في الموضوع السياسي الشائك، كان يتحدث بحزن عميق عن الجبهة، وعن التحالفات، ثم رشني بسيل من الاسئلة، ماذا يفعل فلان ـ وفلان، سألني عن العديد من الشعراء والادباء، وعن الاتحاد والثقافة فكنت اجيبه على ضوء المعلومات المتوفرة لي من خلال ترددي على الاتحاد، كان يشدد على اسماء بعينها، وكان يخشى عليهم، من السقوط في دوامة السلطة، فهي من وجهة نظره (جهنم) واذا ما فتحت ابوابها ستحرق اليابس والاخضر، كنت استمع اليه بانتباه شديد وكأني اناشده الاّ يسكت لكي استفيد من تجاربه السياسية الكبيرة وتحولاته من الوجودية الى الماركسية ونظرياته حول ضرورة ان يطالب الناس، والاحزاب المتحالفة انذاك، بضرورة انتخاب مجلس برلمان، وصياغة دستور لكي يحتمون به ثم استدرك فجأة، وكأنه شعر بالاحراج لقد اثقلت عليك.. اخبرني هل لديك النية في البقاء هنا.. اجبته لا ادري ولكن في الوقت الحاضر نعم، ولو لبعض الوقت، اريد ان اتعلم اكثر، منكم ومن غيركم، كانت السكرتيرة تتدخل بين فينة واخرى، دون ان تفقد ابتسامتها، وبعد ان مضى الوقت بنا، حاولت الاستئذان، لاني اخذت الكثير من وقته، وفجاة اطلق ضحكته المشهورة.. وطلب من سكرتيرته ان تأتي بالكاميرا.. ولكي نأخذ صورة تذكارية ثم خاطبها بالقول تذكري.. سيكون له شان كبير بعد ذلك طلب مني قصةـ وفعلا كانت معي لانني من المحال، استطيع نشرها في بغداد اسمها (الضارة) فارسلها على الفور الى الطبع دون ان يقرأها.. وقبل ان ابدي وجهة نظري قال: ستقرأها في الاسبوع القادم.. وفعلا حدث ذلك.. ثم خاطب السكرتيرة.. اين سنتغدى يالله هيا بنا الى مطعم الامين، لاني صباح غد ساسافر الى لندن لمدة اسبوع، سأراك طبعا اريدك ان تعمل معي.. وبعد الغداء وضع بيدي مظروفا فيه (مائة ليرة لبنانية) خذ هذه مكافاة القصة رحمك الله يا بلند الحيدري، ورحم الذكريات التي تواصلنا بها منذ ذلك الوقت وحتى وفاتك فاذا كانت روحك حاضرة فشعرك باق في حنايانا حتى نلتقيك، وصدقني قالها عبدالوهاب البياتي عندما كنا نتغدى مع بعض بحضور الشاعر محمد مظلوم.. لي وقفة معها في وقت اخر. هذا المقال كتبه القاص الراحل مهدي علي الراضي ونشر في بغداد عام 2004 في جريدة الصباح نعيد نشره لاهميته
بلند الحيدري الذي مات مرتين
نشر في: 10 مارس, 2010: 04:52 م