تغيّرت بغداد بعد عام فقط من رحيل القوات الأميركية عن العراق. صحيح أنها مازالت متعبة وممزّقة بعد عقود الدكتاتورية والعقوبات والحرب، لكن خارج نقاط التفتيش والجدران الكونكريتية التي تحدد المنطقة الخضراء حيث تقع السفارة الأميركية ويقيم أغلب السياسيين العراقيين والدبلوماسيين الأميركان، فان العراقيين يحاولون استعادة مدينتهم. لقد فشلت جهود الولايات المتحدة في إعادة إعمار وتطوير العراق في الكثير من المجالات.
بعد مرور ما يقارب التسع سنوات على الصدمة الأولى والخوف، لازال العراقيون يفتقدون التيار الكهربائي المستقر ويجازفون بشرب الماء من الصنابير بينما مياه الصرف الصحي لا تزال تطفح من البالوعات وتفيض بها الشوارع خلال امطار الشتاء. مع ذلك، فهناك مشروعان ناجحان – استمرار صناعة النفط واصدار العملة الجديدة– تمكن العراق عن طريقهما من دفع مرتبات الموظفين وتحفيز الاقتصاد.
ربما تكون العاصمة بغداد متخلفة عن باقي مدن العراق –حيث ساعد الوضع الأمني الجيد والاستثمارات الأجنبية على دفع الاقتصاد ليس فقط في اقليم كردستان وانما في مدن الجنوب ايضا – الا ان اقتصادها المحتضر تعود اليه الحياة تدريجيا، فوكلاء السيارات الكورية واليابانية ينتشرون في الكرادة ومناطق بغداد الاخرى، والطلاب يتناقلون القيل والقال في رحاب جامعة بغداد التي كانت منطقة أشباح خلال ذروة الاعمال المسلحة، إشارات المرور الضوئية عادت تعمل في الشوارع، وبدأ البغداديون من مختلف الطوائف الدينية بالعودة الى ارتياد المطاعم بعد افتتاح المزيد منها. يتجمع الشيعة والسنة والمسيحيون في مطعم النادي اللبناني الذي افتتح قبل عامين وينشر الموسيقى على ضفاف دجلة، بينما مطاعم اخرى قديمة توسعت. وكما في سنوات السبعينات، فقد عادت العوائل الى مطاعم شارع ابي نؤاس لتناول وجبة "السمك المسكوف" العراقية التقليدية. المشروبات الكحولية متوفرة لكن لدى باعة يبيعونها بالخلسة حيث يقولون ان غارات الشرطة التي يتعرضون لها لا علاقة لها بفرض القيم الدينية وانما بتلقي الرشاوى.
أول المشاريع الحكومية الكبرى سيبدأ العمل به قريبا. معمل تنقية المياه على نهر دجلة، حيث سيوفر إسالة الماء لأغلب مناطق العاصمة مع مياه صالحة للشرب خلال أشهر. طواقم العمل تعمل بنشاط للعناية بالطبيعة وغرس الاشجار وعمل ممرات للمشي في الحدائق على طول قناة الجيش البالغ 25 كيلومترا، المهم أن متنزهها سيغير الطبيعة الاجتماعية والحضارية للعاصمة.
إن اتهام رئيس الوزراء نوري المالكي بالتحول إلى دكتاتور فيها شيء من المبالغة. صحيح انه كان يسعى إلى توحيد السلطة لغرض الحكم إلا أن سلطته مازالت ضئيلة قياسا الى الحكام في الشرق الاوسط، وانه يتمسك بحكم القانون اكثر من جيرانه في السعودية والاردن وايران وسوريا وحتى تركيا. ومن الدلائل الصحية إن صور المالكي الشخصية غائبة عن الأماكن العامة. المالكي يعرف ان العراقيين ناضلوا لإسقاط صورة صدام لكن ليس لاستبدالها بمعبود آخر.
هناك مشاكل أخرى كثيرة، فأسعار النفط تساهم في دعم القطاع الحكومي المترهل؛ حيث يقبع الموظفون في مكاتبهم مكتوفي الأيدي دون عمل، ومعظم الوزارات يمكنها انجاز الأعمال بجزء من موظفيها، ادارة المصارف بدائية، والفساد متوطن في البلاد. يتداول العراقيون نكتة عن المالكي في البيت الأبيض، فيقولون سأل المالكي اوباما: كم يحصل المواطن الأميركي في السنة؟
اوباما: 48 الف دولار، الا ان تكاليف المعيشة لا تتجاوز 11 الف دولار.
المالكي: اذن ماذا يفعل بالمال الفائض؟
اوباما: انا لا اسأل لأننا بلد ديمقراطي. وانتم كم يحصل المواطن العراقي عندكم في السنة؟
المالكي: 3.900 دولار، وان تكاليف المعيشة تبلغ 5 آلاف دولار.
اوباما: ومن أين يأتي بالباقي لكي يعيش؟
المالكي: أنا لا اسأل لأننا بلد ديمقراطي.
ليس من العدل ان نطلق على المالكي بأنه لعبة بيد ايران، فالعراقيون يعتنقون مذهب التشيع علنا، وعندما يتعلق الامر بالعلاقة بين العرب والفرس فالقومية تنسخ التضامن الطائفي. فخلال الحرب الايرانية-العراقية كان آلاف من شيعة العراق يقاتلون الإيرانيين من نفس مذهبهم ولم ينحازوا الى الجانب الإيراني. كما ان الكثير من العراقيين فرحوا بانهيار العملة الإيرانية ليس فقط لأن ذلك يوجه ضربة للغطرسة الايرانية وانما ايضا لأنه يوفر فرصة لشراء السلع رخيصة في طهران وبيعها بأسعار عالية في بغداد.
كما ان اعتقال ومحاكمة الهاشمي لا تجعل من المالكي دكتاتورا او ألعوبة بيد إيران، فالعراقيون – بضمنهم اياد علاوي قد اقروا باحتمال تورط الهاشمي في الجرم المنسوب إليه وان هيئة القضاة التي مررت الحكم جاءت من خلفيات سياسية متنوعة. المالكي رجل واقعي، فمع رحيل الاميركان لم يعد يستطيع أن يلاعب طهران وواشنطن من اجل الحفاظ على حرية مستقلة في العمل. ان العراق بلد ذو أهمية كبيرة لا يمكن تجاهله او نسيانه. الضغط الأميركي المتواصل هو الذي يبقى علي موسى داقوق –من حزب الله– رهن الاعتقال حتى بعد ان حكمت المحاكم العراقية بإطلاق سراحه من السجن. كما ساعد الضغط الأميركي المالكي على التصدي لإيران وإجبار طائراتها على الهبوط من اجل التفتيش.
إن الخوف من المستقبل يلوح في بغداد، وكذلك الإثارة من احتمال خروج العراق من المستنقع الذي يغرق فيه. الروس والصينيون يضخون أموالا في العراق ليكونوا جزءا من المستقبل لكن الاميركان يتراجعون. يبدو ان الكثير جدا من الاميركان يرغبون بالتضحية بمستقبل العراق على مذبح عداءهم لجورج دبليو بوش. ذلك لن يكون مأساويا للعراقيين فحسب وانما للأمن القومي الاميركي ايضا.
عن: توبيكس