زهير الجبوري لعل ما يبرز العلاقات المكانية للشاعر (بلند الحيدري) في قصيدة (العقم) هو الرابط السيكولوجي الملح والمتكرر بطريقة تعبيرية مكثفة، بالرغم من حدة المأساة الواضحة من خلال عملية المواجهة لذات الشاعر مع المتلقي، كما أن تكرار العبارات في فقرات القصيدة ياتي من نضوج التوهج الحاصل في دواخله من عملية الانفعال التي ادت الي التركيز والالحاح في ذلك: نفس الطريق نفس البيوت، يشهدها جهد عميق نفس السكوت .. كنا نقول غداً يموت..
من هذه العلامة التي دارت على ارضيتها عملية التكرار فان التجانس الذي حصل للعبارات (الطريق، البيوت، السكوت) تناظرت مع العبارة( كنا نقول غداً يموت)، فالموت اذن هو النتيجة النهائية التي يخرج بها الشاعر من بداية قصيدته، وهو دخول سريع ومباغت.. وبذلك يحاور الشاعر من خلال ايقاعه الشعري الاجواء المكانية المؤثرة على ذوات الناس.. وهي متخذة عدة اتجاهات فـ (الطريق/ علامة للمكان المفتوح) و( البيوت/ علامة للمكان المحدود) و( السكوت/ علامة للفعل المكبوت) .. لتتضح امامنا الايهامات المشحونة بالحس الانفعالي المتمحور مع الذات والمعلن بـ(الموت)، ولان في القصيدة حوارية يمكن ان نصفها مباشرة، فان برهاننا لذلك الاهداء الذي جاء تحت العنوان، اذ كتب الشاعر (بلند الحيدري) انها - اي القصيدة - (مهداة الي صديقي بالروح يوسف الشاروني) ليضئ النص او ليتضح امامنا علي شكل مفتاح الدخول. وبعدها، تصاعدت آليات التوهج المشحون بالصور المكثفة والمتراصة بين فقرات القصيدة، لكننا تحسسنا انها تحمل ايقاعاً موسيقياً حزيناً تشكلت مع العبارات ذاتها: (وتستفيق من كل دار (اصوات صغار) يتدحرجون مع النهار على الطريق، ويسخرون بأنفسنا، بنسائنا المتأففات، بعيوننا المتجمدات ، بلا بريق). من هنا ركز الشاعر من خلال استجلاء المعني داخل المكان في اعادة مشهد جديد غير المشهد الاول - الذي جاء في البداية ، ليؤطر الرموز والتحولات المتباينة من الناحية الدلالية المكثفة لفعل الحركة الشعرية (من داخل المعني) فالاستفاقة(من كل دار) جاء ضمن حالة مشبعة برموز العلامات الماثلة بطريقة التكوين الصوري(الممنتج)، ليسير النص بتناسق شعري مموه ومشحون بشفرات مجازية واضحة، فـ ( التدحرج مع النهار) هو عملية حياتية ذات حركة مرتبطة بالوقت، ولكنها تتناظر مع ذوات الاطفال وصدى اصواتهم ليشكل ذلك.. منظوراًُ ممحوراً ذا اشارة نفسية تارة وحسية تارة اخرى، وكذلك توقظ المقاطع الشعرية الاخرى مع المتلقي الحقيقة الشعرية وممارسة تاثيرها على الواقع، فحالة اليأس ناتجة عن الواقع.. يقف ليوثق الاشياء (بعيوننا المتجمدات ، بلا بريق) .. كأن الشاعر يعمل علي تنظير الوقائع المكانية وما تخرج به من نتائج مفعمة بالحزن، فهي ان دلت على شيء ، فانما تدل على نقل احساس الاخر بصورة شعرية ناطقة ومعبرة عن الروافد الروحية المؤثرة، لتنفجر من خلال الايقاع الشعري الخالص. ثم انتقل النص الى اللهجة المبسطة وعبر جمل قصيرة ومرتبطة بالعبارة التي قبلها بين الشاعر (بلند) مشهداً شعرياً مستلهماً ورسمه من واقعه الحياتي:( ان يفهموا ما الذكريات، لن يعرفوا الدرب العتيق، وسيضحكون لانهم لا يسألون، لم يضحكون..). فخضعت هذه الجمل الي حوارية (الراوي) المتأني، بعد ان استكملت عملية تأطير المعنى تحت دلالة الاقرار والاعتراف بالواقع المغيب للموما اليه.. لنستنتج بعد ذلك ما يأتي (لن يفهموا + لن يعرفوا = سيضحكون) ، ان الانتقاء الحسي والدلالي في سياق المفهوم العام ربما ينقلنا الى منطقة (ما ورائية) ، اي ان هناك اسباباً تشكلت وتكونت قبل كتابة هذا النص، ولاسيما ان الشاعر خرج بنتيجة مبينة وواضحة امامنا من عبارة(سيضحكون) فحرف (السين) جاء للاستقبال و (يضحكون) هو التحصيل العام لفحوى النص الشعري. وقد تبين ان عملية اظهار المعالم الاساسية لواقع المعاناة، قد تكون ضمن استلهامات ودلالات لها قوة بروز المعنى، وهذا يعني قدرة الشاعر على خلق اجواء عيانية بارزة خلال صياغته الشعرية، وهذا جاء في ظل افرازات الواقع المتشظي بانحسار العلاقات المتضاربة مع بعضها، برغم ان الشاعر هيأ عباراته وشحنها بالوصف الحيوي المتضارب مثيراً احساسات المتلقي بشكل مباشر، ونقول (المتضارب) هنا .. اذ تشتعل القصيدة على ايقاعات النفس.. وايقاعات الموسيقى الشعرية .. وايقاعات النص ذاته(معناه)، وكذلك بآلية متدفقة ومنهمرة بمعاني الالقائية والوصفية، مع تكوين صور المشاهد الاخيرة، ولان هذه الاشتغالات لها عمقها الدلالي المتجذر، فأن (بلند الحيدري) اعطى لها شمولية واضحة المعالم من خلال الالقاء. ومن منطلق آخر، نلمس حضور الذات ( ذات الشاعر) وهو يتمسك بعباراته التي يبني من خلالها نسيجه الحواري بعد ان يوظف الزمن الوقت ثم يعطي لنا نسقاً شعرياً موضوعياً: كنا نقول سندرك ما نقول ولسوف تجمعنا الفصول .. هنا صديق وهنا انسان خجول. ان الاشارة هنا تقدم اقتراناً مضموناً لشمولية (الكل) - كنا نقول -، لتؤكد العبارة ان الشاعر ربط ذاته مع الاخرين ليعي مفهوماً، عاماً للمعنى المقصود، وهذا ما يجعل الاخر مع ما يطرحه الشاعر، فالاقتراب في المقطع الواضح امامنا جاء بعبارتين (نقول ، تجمعنا) .. ثم يتفرد بعدها بتشخيص البلادة العائمة على هوية الانسان ونوازعه (وهناك انسان خجول)، غير ان كيان الانسان (هنا) ينبثق من حالة انبثاق المعنى، كأن الشاعر يقوم علي تدليل واقعية حياتية ومعا
نص العقم لبلند الحيدري - الوقائع المكانية ودلالات الحس الشعري
نشر في: 10 مارس, 2010: 05:04 م