رجل أربعيني يجلس على قارعة الطريق وسط مدينة "سولت ليك" (بحيرة الملح) عاصمة ولاية يوتاه، أسأله: منذ متى تجلس هنا وترسم هذه اللوحات الغريبة؟ يرد ببرود: لا اعلم في الحقيقة لان ذلك ليس مهما. ولماذا اشغل نفسي بأشياء غير مهمة ولا يكترث لها احد؟ اسأله: ما هي الاشياء المهمة التي تكترث لها اذن؟ يجيب وهو يحك رأسه: هناك بعض الاشياء المهمة وسط ركام من الاشياء السخيفة. انظر مثلا الى من يحاول التنبؤ بنهاية العالم. لا احد عرف البداية ولذلك فلا احد سيعرف متى تحل النهاية، ولذلك فهذا سؤال بلا جدوى.
أرى هذا الرجل منذ أربعة ايام جالسا امام حانة مليئة بشباب يقدمون له التبغ وبعض الطعام، وهو مشرد من النوع الفخم يرسم لوحات بعضها معبر، ولا يضع اي سعر عليها لكن السياح ينتابهم الفضول نحو "مشرد فخم" يرسم لوحات حلوة ويواصل النوم في الشارع، حتى كأن التشرد في امريكا مهنة او حتى موضة.
فوجئت بطريقة اجابته على الكثير من اسئلة شخص فضولي مثلي. ويستمر في لعبة عدم الاكتراث هذه، حتى حين اسأله عن القراءة. من الواضح انه قد تأثر بفلسفات القرن العشرين اليائسة التي تجعل الكثير من القراء، وانا منهم، على حافة الجنون احيانا. اسأله لمن يقرأ هذه الايام، فيجيب انه لم يفتح اي كتاب منذ اعوام، وانه لم يكن يلاحظ اسم الكاتب حين يتصفح الكتب، اذ لا اهمية للشخص الذي قال تلك الاشياء، فالمهم هو الاشياء نفسها لو كانت تؤدي الى طريق ما. ومن المؤسف انه لم يعثر على طريق سوى ان يكون نصف فنان ومشردا بدوام كامل.
الرجل هذا يعمل "فورمات" لحياته، ولكن بطريقة متعسفة تجعله ينام وسط البرد. يشرح لي كيف انه بدأ يستغني عن الاشياء غير المهمة بعد ان وجد نفسه منهكا بأعباء زائفة. اليوم يجد انه خفيف كريشة وبلا اعباء، لانه تخلص من كومة اوهام كانت تكلفه الكثير. هل هو استمرار لسيرة المرتاضين والزهاد في كل زمان ومكان؟ لماذا يقوم التشرد احيانا بتحويل الناس الى فلاسفة؟ ام ان الفلسفة حين تفرط في التساؤل وتفضح محاولات الاجابة، هي التي تحول الناس الى مشردين؟ الفيلسوف بوبي يقول لي: لست متعسفا في طريقتي لنيل الحرية، انتم المتعسفون في طريقة حياتكم "العاقلة"التي تحرمكم الحرية.
ربما يكون على حق، وعلى اي حال فقد اشتريت منه لوحة تشبه الحروفيات رسم داخلها بخط "المزج" الانجليزي تخطيطا لكلمة "واي". وهي ليست الجبل واي الذي تحدثت امس عنه وعن تفاؤل المورمن بروحه قرب جامعة يونغ خارج يوتاه وفي كنيسة "قديسي الايام المتبقية"، بل قام فناننا هذا برسم الكلمة الانجليزية التي تعني "لماذا". هو يقول ان "الواي" هي الشيء المهم الوحيد الذي عثر عليه حين قام بتصفية اعبائه والتزاماته. لقد امسك بهذه الكلمة كغرض ثمين ولم يقم برميها وراح يرسمها كل يوم. يؤكد لي ان لوحة "الواي" هي "الاكثر مبيعا بين اعماله" وانها تدر عليه ثمن القهوة والتبغ على مدار الاسبوع. ان الناس تحب كلمة "واي" و"لماذا". طيب "لماذا" يحبون "لماذا" رغم انها تعني الطريق المسدود عندك يا سيد بوبي. يوضح لي: قد نعثر على الإجابات ثم ندرك سريعا انها محملة بأخطاء لا تحتمل.
يبدو ان المجتمع الذي يقدم للناس تدريبا جيدا، يتحول المشردون فيه الى عارضي مواهب فريدة. وقد رأيت في واشنطن العاصمة مشردين يعزفون الكمان، واخرين يرتجلون الخطب السياسية ويسخرون من اراء اوباما ورومني معا. اما المشهد الذي لن انساه فهو في ازقة اطلانطا بجورجيا، لمشرد امريكي اسود وقف يغني قبيل الفجر، وشعرت ان حزن افريقيا كله يغني معه على حاشية ليلة عواصف تنصت لاعصار ساندي الذي مر فوق رؤوسنا مسرعا وراح يعبث ببورصة وول ستريت.
انهم يعرضون جنونهم بطريقة مثيرة هنا. والامر يذكرني بمجنون في مدينة قم بإيران كان يجلس في زاوية مقبرة حسنة الشكل، يرقد فيها متصوف كبير، وكنا طلابا فقراء لا نمتلك مكانا يصلح لمذاكرة الدروس سوى هذه المقبرة لان اماكن نومنا مزدحمة بمن يثرثرون حول كل شيء الا العلم. المجنون كان يسمع مذاكرتنا كل يوم بالعربية ويهذي بالفارسية في موضوعات لا يكترث لها احد. لكن ذلك المجنون اصيب بجنون اكبر يوما ما وحاول ان يضرب صديقي عبد اللطيف الحرز، فتدخلنا لمنعه وقلت له ما بك يا مجنون؟ فراح يضحك من كل قلبه ورد: انت يا ولد لا زلت صغيرا على فهم الجنون. ادري انك تقول انني مجنون، لكنك حين تكبر قليلا ستفهم بشكل جيد لماذا يصاب الناس بالخبل!
والحقيقة ان الحياة مليئة بمبررات ان نتحول الى مجانين او مشردين، او شيئا من هذا وشيئا من ذاك، وكلما رأيت احد هؤلاء على قارعة طريق اجتاحني رعب وهلع ورحت اتخيل نفسي واحدا منهم يائسا من طريقة حياتنا المعتادة ومحاولا تجربة خيار جديد هو مرعب حقا. وكل شيء ممكن في النهاية والجنون "خيار دستوري" لكل عراقي طالما ظل البلد تائها بين خيارات اكثر ساسة العالم جنونا وبلا اي موهبة. هل احصيتم كم كلمة في لهجتنا العراقية تدل على الجنون: مسودن، منكد، مستوي، لاكف، مشخوط، سويج.. والباقي عليكم، ولم اجد عربيا يمتلك في لهجته ما نمتلك من كلمات مترادفة في هذا الباب، والامر بحاجة الى تفسير اتركه لكم.
المجنون الامريكي باعني لوحة "الواي" وحاول ان يتهرب من سؤالي حول جدوى ان يصاب المرء بالخبل احتجاجا على لعبة يكرهها. ظل يقول لي: لا احد يعرف نهاية العالم اذ لا احد يعرف بدايته، ولاننا لم نعثر على بداية ولا نهاية فربما كان التاريخ دائريا، لا مبتدأ له ولا منتهى. اتركني ادور هنا مثل الكون الفسيح.
لا ادري ان كانت مادتي هذه مناسبة للنشر، لكن هذا المجنون الأمريكي حقا جعلني افهم الان معنى ان يقوم مؤمنون كالمورمن،رغم انهم يحرمون شرب الشاي والقهوة ويتزوجون بأربع نساء في العادة، بإطلاق اسم "لماذا" على روح الجبل الهندي الصامت منذ قرون قرب جامعة يونغ. هل ثمة جبل آخر اسمه "لماذا"؟
"الجنون فنون" في أمريكا أو إيران
[post-views]
نشر في: 4 نوفمبر, 2012: 08:00 م