بدءا من منتصف القرن العشرين دخل العرب عصر الثورة. سقطت نظم ملكية في مصر وتونس والعراق وليبيا واليمن الشمالي. وهيمنت فكرة الثورة على العالم العربي، بما في ذلك بلدانه التي لم تنشب فيها ثورات أو تقع فيها انقلابات. فقد كان للفكرة أنصار في كل البلاد العربية، الهائجة أو الهادئة.
البشرية فئة الصوت العالي وجدت فيها العلاج السحري لكل الآفات. والعلاج الشافي لكل شيء خرافة. وكانت "الثورة" أكبر خرافة في تاريخ العرب الحديث. ورغم أن مروجيها وأبطالها حملوا رايات العصر، وتبنوا بعضا من افكاره السياسية، فقد كانوا أكثر الناس بعدا عن التفكير العلمي أو العقلاني. ولم يكن العصر نفسه خاليا من خرافات كبيرة، وفي صدارتها النازية التي أشعلت أعظم حرب شهدها التاريخ.
كانت النتيجة الوحيدة التي وصلت اليها بلدان "الثورة العربية"هي فقدان البوصلة، هي الضياع. وسيبلغ الضياع أوجه مع "الموت السياسي" الذي ترجمته مشاريع الجمهوريات الوراثية في سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن. وجاء "الربيع العربي" ليعيد الحياة الى السياسة. وكان اهم ما في هذه العودة هو اكتشاف الضياع. فالضياع لم يكتشف على حقيقته إلا بعد "الربيع العربي". ضياع الأمم او البلدان يعني فقدان شعوبها لهدف كبير، جامع ومشترك. والهدف الكبير في الضياع الكبير هو بناء نظام سياسي يسلِّم الشعب بشرعيته.
وبدلا من البحث عن طريق يقود الى مثل هذه الشرعية، دخل سجناء الأمس وأحرار اليوم في صراعات حامية بين بعضهم بعضا على الفوز بالسلطة. بدأوا الصراع على الكعكة قبل أن تُطبخ الكعكة. والطبخة هي انجاز مرحلة الانتقال الى الديمقراطية. وهي مرحلة شاقة وطويلة. قفزوا عليها وكأنهم انجزوها ثم شرعوا في التصارع والتنافس على السلطة كما لو أنهم في الديمقراطية. اشتغلوا بأهم آليات الديمقراطية، وهي الاقتراع، قبل ان يمشوا في مرحلة الانتقال، ويهيئوا مقومات الديمقراطية، من منظومات أمنية واقتصادية وإعلامية. وبذلك ضلوا الطريق وأضاعوا الهدف.
هذه الحقيقة تكاد أن تكون أكبر كشوفات "الربيع العربي". هذه هي لحظة مصر كما هي لحظة العراق وليبيا وتونس واليمن وسوريا، وبقية الجمهوريات، رغم التفاوتات في درجات الصراع والتعقيد. لحظة فقدان القدرة على بناء نظام سياسي يتمتع بالشرعية الوطنية أو الشعبية. وكلما رجحت كفة التفكير الخرافي في احدى هذه الجهوريات كلما ازدادت أوضاعها عسرا وعنفا. ولعل سوريا والعراق هما أصعب هذه البلدان لشدة صراعاتهما الطائفية والاثنية، وامتداداتها الإقليمية.
الملكيات والامارات العربية، مهما كانت مساوئها ومشاكلها، لم تدخل المتاهة. لم تفقد القيادة الشرعية. قد يفرض التاريخ عليها، وربما في مستقبل غير بعيد، مهمة التحول الى ملكيات وامارات دستورية. هذا هو افقها. ولكن ليست لديها مشكلة شرعية. ومقاييس الشرعية عديدة، منها الوحدة الوطنية، والاستقرار، والاقتصاد بما فيه مستويات المعيشة، والتطور التدريجي.
لكن الملكيات المستقرة نسبيا قد تسهم، بمعية غريمتها ايران التائهة هي الأخرى، في تكريس المزيد من "الضياع الجمهوري"، بدخولهما في صراعاته السياسية، خاصة دعم "الاخوان" و"السلفية" والاسلاميين الشيعة حيثما وجدوا. ان تصدر الأحزاب الاسلامية "ساحات التحرير" الجمهورية يعرقل أو يبطىء التحولات الديمقراطية. وقد تجد الملكيات، ومعها ايران، في هذا البطء مصلحة تتمثل بتأجيل مواجهة استحقاق التاريخ القاضي بتحولها الى أنظمة دستورية وديمقراطية. الخائف يجور على التائه. ولعل هذا "العبث الملكي" أكبر أعوان "الضياع الجمهوري".
التائه والخائف
[post-views]
نشر في: 4 نوفمبر, 2012: 08:00 م