سعد محمد رحيمفي اللحظة التي دوت فيها الانفجارات صبيحة يوم الانتخابات البرلمانية الأخيرة قرر أبو فاتن التوجه إلى المحطة الانتخابية للإدلاء بصوته، متخلياً عن عناده السابق، ورفضه المشاركة في العملية الانتخابية بدعوى أنها بلا جدوى كما كان يعتقد.
ولم ينتفض أبو فاتن وحده من أجل هذا الأمر الذي أضحى، الآن، يؤمن بضرورته وحيويته، وإنما اصطحب معه زوجته وابنته التي تخطت، لتوِّها، الثامنة عشرة من عمرها وصار من حقها الإدلاء بصوتها.أفرزت الانتخابات تلك جملة من المعطيات التي لا تخفى دلالاتها على المراقب السياسي. وهي في مجموعها تؤشر تقدماً نوعياً حصل في المشهد السياسي العراقي بالمقارنة مع انتخابات نهاية العام 2005.. هذا التقدم لم يقتصر على لغة وخطاب السياسيين المرشحين وحسب، وإنما طرأ، كذلك، وبشكل أعمق، على وعي وسلوك الناخبين من الرجال والنساء الشجعان الذين خرجوا في تحدٍ غير مسبوق للعمليات الإرهابية ليختاروا ممثليهم في البرلمان ويرسموا منعطفاً جديداً في تاريخنا المعاصر، المأزوم منذ عقود. ذلك هو المعطى الأول في الكرنفال الانتخابي. وما فعله أبو فاتن وعائلته لم يكن استثناءً، فمع ملايين آخرين اندفعت نحو محطات الانتخاب، على الرغم من التهديدات والانفجارات بات واضحاً فحوى رسالة هذا الشعب للعالم، والذي أفصح عن طبيعة معدنه، وحبه للحرية، وإرادة الحياة التي تنطوي روحه عليها.وكان المعطى الثاني لهذه التجربة التاريخية الفذة هو غلبة الخطاب السياسي الوطني على الخطاب المذهبي والطائفي والعرقي. وقد أدرك السياسيون أن مجتمعهم يريد حلاً وطنياً شاملاً (لا فئوياً ضيقاً) لمجمل القضية العراقية. إلى جانب اقتناع الجميع بأن العراقيين، بعمقهم الحضاري وتنوعهم الثري، في مركب واحد، فإما أن ينجوا جميعاً، أو يغرقوا، لا سمح الله، جميعاً.أما المعطى الثالث فهو هاجس التغيير والإصلاح والبناء. وهذه هي المفردات التي كانت الأكثر تداولاً في الدعايات الانتخابية للمرشحين ومن ضمنهم المشاركين في الدورة الانتخابية السابقة. وهؤلاء الذين سيعاد انتخابهم مرة أخرى ليسوا قليلين وها هم يُمنحون فرصة ثانية (وأخيرة حسب ما أظن، إلا إذا حسّنوا من أدائهم وتجاوزوا أخطاء وإخفاقات المرحلة المنقضية). وما يثير فينا التفاؤل، على الرغم من بعض ما يلوح في الأفق من أزمات ما بعد انتهاء عمليات التصويت والفرز وإعلان النتائج ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة، أقول؛ ما يثير فينا التفاؤل هو إصرار الجميع على تغيير الوضع في العراق من خلال إجراء الإصلاح السياسي وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحسين الحالة الأمنية. وما نترقبه حقاً هو أن يكون البرلمان القادم في مستوى وعي الشارع السياسي وفي مستوى طموحات وآمال الشعب، وفي مستوى الثقة التي منحها هذا الشعب للمنتخبين.إن تجربتنا الديمقراطية ما تزال فتية، ولا يخلو مسارها من العثرات والأخطاء، لكنها ماضية في طريق النضوج. وهي من جهة أخرى قادرة على تكريس قيم ومفاهيم وتقاليد سياسية جديدة حتى وإن لم تحدث بالسرعة التي نرغب بها وبالدرجة التي نتمناها. لم يعد مهماً للمواطن الاعتيادي من سيجلس على الكراسي السيادية غداً (من أي حزب أو طائفة أو عرق).. ما يهمّه حقاً هو ما سيفعله ذلك الجالس على كرسيه الكبير من أجل العباد والبلاد.
وقفة: الانتخابات والمعطيات الجديدة
نشر في: 14 مارس, 2010: 05:38 م