محمود عبد الوهاب غالباً ما كنت أردّد : يا للحياة من مهنة شاقة ! . إنها شاقة بما تمتلكه أنت من وعي ، يأخذك ذلك الوعي من يديك ، إلى ما يفسد عليك حياتك التي كنت تعيش في أفيائها سعيداً . أنا ، هنا ، على الرصيف ، رجالٌ ونساءٌ ألمح متاعبهم من تثاقل خطاهم ، والمدينة ، ذلك الميناء البهيج ،
استحالت إلى قرية مركونة ، وأنا ، بين المارة ، خيط هزيل يحار أين يكون مستقرّه هذا الصباح . كتب تولستوي في إحدى رواياته : السعادة ذات طعم واحد ، لكنّ الشقاء متنوع الطعوم . صباح هذا اليوم ، عُدت إلى قراءة رواية " المقامة البصرية العصرية " للروائي الصديق الراحل مهدي عيسى الصقر ، وهي حكاية مدينة ، اتخذ منّا مهدي ، أبطالاً لروايته ، السياب والبريكان وسعدي يوسف والصقر وأنا . جرت حوادثها في نهاية الخمسينات من القرن الماضي . كتب مهدي: كنّا ما نزال شباباًُ ، وكانت المزحة تهيمن على جلساتنا ، وفي مقهى البدر على كورنيش البصــرة ، كنّا ذلك المساء مجتمعين ، وكان السياب مغرماً بالدعابة ،أشار السياب إلى الغجرية أن تدخل المقهى، وسألها أن تكشف بالحَجَر الذي تفرشه على الأرض، سترَ مصائرنا. طلبنا منها أن تبدأ ببدر فهو صاحب الفكرة . لم نكن نصدّق ما تقول، لكننا كنا نتسلّى ، وقد أحزنتنا حينما قالت لبدر : تموت صغيراً في أرض غريبة ، ولمهدي أراك تحت نجم آخر ، ولي ستعيش حياتك بلا رفيقة درب ، ولسعدي ستتقاذفك البلاد الغريبة ، وتنبأت للبريكان بمصير فاجع . قبل صدور الرواية ، كنت أقرأ مخطوطتها في بيت مهدي ، توقفتُ عند حكاية الغجرية، قلت لمهدي : أنا أتذكر شيئاً من تلك الحكاية ، وما قالته الغجرية عنّا بلغتها الغامضة . سألتُ مهدي : هل كانت تلك المصائر التي ذكرتَها في روايتك هي نفسها التي تنبأتْ بها تلك الغجرية حقاً ؟ . أليس بعضها من خيالك كروائي ، أليس الواقع في الرواية مرئياً ومتخيّلاً ؟ . انقضت حكاية الغجرية . أتساءل الآن كلّما ضاقت بي العزلة في شقّتي ، واجتاحني استيحاش مرير مما حولي يحملني مهزوماً بالمزاج المكتئب إلى فضاء الشارع الفسيح الذي أجد فيه خلاصي ، بين حركة المارة ونداءات الباعة والصباح المتكسّر على ذيول واجهات الدكاكين ، أتساءل، أأنا اجتماعيّ بالطبع كما يقول فلاسفة الاجتماع أم أنا اجتماعيّ بالضرورة كما يقول الماركسيون ؟ . أستدرك، وأقول : أنا اجتماعيّ بالضرورة ، تلك الضرورة التي تأخذني إلى الشارع اليومي المزدحم الضاجّ ، وتضعني في خانة لمكتب صديق ، أو علــى تخت مقهى شعبي ضاجّ ، أو على كرســـي مجاور لمطعم تتجاوز رائحة شوائه رصيف المارة ، شواءَ ودخاناً ورائحة نافرة . هكذا يبدأ يومي ، أنا المسكون بوحدته ، تلك الوحدة التي تحملني إلى نوع خاص من الكتب ، وإلى نوع خاص من القراءة تنفتح على علاقة الأدباء والفنانين ومجالسهم وسيرهم بعفوية الإنسان وسماحته ، مثل هذه الكـتب تنساب متعتها إلى داخلي . أتوقف لحظات عن القراءة ، أتأمل بلذة وندم معا الخسارات والمباهج التي اكتنفت حياتي . أتذكر أن " إزنشتاين " المخرج السوفيتي الكبير قال في محاضرة له : لن يستطيع أحد أن يُرجع الزمن إلى الوراء غير السينمائيين ، حينما يديرون "بوبينة" الفيلم " = بَكْرة الفيلم" ، على عكس ما يجري عادةً، من النهاية إلى البداية . غالباً ما أتوق إلى لقاء تلك الغجرية ، أسألها : هل بالإمكان أن يرجع الزمن حقيقة، وتعود هي إلى تغيير مواضع أحجارها اللئيمة التي فرشتها على الأرض ذلك المساء، هل بالإمكان؟ .
اوراق: الغجرية التي أحزنتنا ذلك المساء
نشر في: 16 مارس, 2010: 05:53 م