كاظم الواسطيrnيوم 16-3- 1988، انحنى رأس الإنسانية خجلاً من فعلٍ بشري تجاوز حدود العقل بمسافات ضوئية، وترك وراءه شريعة الغاب في درجة قسوته، وهمجيته، وكانت الصدمة خارج أيّ توصيف طبيعي لفعلٍ تميّز بشناعته، وبشاعته، في قتل الأبرياء.
في ذلك النهار الربيعي الهادئ بزرقة سمائه، وصفاء فضائه،وتبرعم أزهاره في حقولٍ آمنةٍ، ينعم فيها البشر والشجر، الطير والدواب، بسلامٍ عقدته الطبيعة بينهم من أجل العيش المشترك، والتمتع تحت ظلاله الوارفة بجمال أشكالها، وبساطة الحياة فيها. في ذلك النهار أستُفزت روح البرابرة السوداء، فأنزلوا كوامن حقدهم قذائف سمٍ، حولت المدينة الغافية على حقول الأزهار نثاراً من رماد على فوهة بركان الموت، حيث الآلاف من الرجال والنساء والأطفال تحولوا إلى متحجّرات بشرية خلال سويعاتٍ قليلة. وصارت حلبجة، في ومضةٍ من الزمن، متحف تماثيلٍ من لحم ودم، أعدّه البرابرة شاهداً ومثالاً حياً على الطبيعة المتوحشة التي تتحكم في نوازعهم، وعبرة للبراءة كي لا تكون بريئة في الزمن البربري. والمشاهد، في الصورة والواقع، كثيرة لاثبات ذلك – الأم التي تجمدّت أوصالها في لحظة إرضاع طفلتها الصغيرة، الأب الممسك، واقفاً متحجّرا، بولده الهارب من باب جهنم المفتوح على مصراعيه، الطفلة التي احتضنت دميتها بقوة غريزة الأمومة في داخلها، ظلت جاحظة العينين في وجه الدمية كي تحميها من فزعٍ لم تقوَ عليه، وجموعٌ من مختلف الأعمار تحجّرت في منتصف الطريق، وهي تهرع مذعورةً نحو ساقية صغيرة، عسى أن يكون ماؤها القليل منقذاً للحياة، أو حتى مغطساً للغرق، الموت فيه أرحم من جحيم البرابرة. نعم، لقد حولوا هذه المدينة الآمنة إلى متحف بشري فاق بغرائبية تشكيلاته، وفضاء رعبه، كل خيالات الفنانين، وصانعي أفلام الرعب، وما كان يحلم به الأباطرة المهووسون بالقتل وتوسيع مساحات الدمار. كيف يتخّيل المرء مدينة جبلية هانئة بما منحتها الطبيعة من جمالٍ وأمان، تتحوّل، خلال سويعاتٍ، إلى مقبرةٍ مفتوحة تتناثر عليها أكثر من خمسة آلاف جثة ٍ لأناسٍ لم ينافسوا أحداً على سلطة ٍ أو جاه،مكتفين برفقة الماء والهواء والحيوان والحجر بعقد محبةٍ ولدوا عليه، ولم ينكثوا عهداً له. فشمل البرابرة كل ذلك بحقدهم الأسود، حيث تلوّث الماء والهواء، وذبلت الأشجار والورود،ومات البقر فوق الحجر. هذه صورة مصغرة جداً عن فجيعة حلبجة، لا يمكن لها أن ترقى إلى مستوى الفجيعة نفسها، وما حدث هناك من " ظلام في الظهيرة ".واليوم إذ تمر الذكرى الثانية والعشرين على كارثة حلبجة، فهي تفرض علينا التذكير الدائم بكل الأهوال والمجازر التي تصنعها الأنظمة الأستبدادية والفاشية، وكيف يكون حال الشعوب تحت ظلالها الداكنة. وأن لا يتوقف التذكير بها عند حدود الأسى أو العويل، بل من أجل أن يعمل الجميع على منع ظهور برابرة جدد، أيا كان شكلهم ولونهم، فهم مصدر المجازر والكوارث التي تعصف بالبشرية، وتعطّل مستقبل أجيالها. إن البرابرة، في كل زمانٍ ومكان، لا يبالون بدروس التاريخ، بل يعتبرون أنفسهم فوق التاريخ، وهم من لهم الحق بتغيير مساراته على أهوائهم، ويظلون في أجواء هذا الوهم، حتى عندما يتخفّون في حفر الجرذان. واليوم، لا خيار لنا، نحن العراقيين، بعد المعاناة الطويلة والمريرة في ظل حكم البرابرة، إلاّ التمسك القوي بخيار الديمقراطية، حكماً وسلوكاً اجتماعياً، وتدعيم مبادئ السلم الأهلي، وبناء دعائم المجتمع المدني، كي لا تكون هنالك حلبجة أخرى تلطّخ وجه تاريخنا بالسواد.
وقفة :جحيم البرابرة
نشر في: 16 مارس, 2010: 06:34 م