محمد سعيد الصكار قلت للسيدة بلقيس شرارة،في حوار تلفوني قبل اسبوعين،إنني لا أستطيع التعقيب على جهدها البارع فيرسم صورة لأبيها الإنسان في كتابها (محمد شرارة - من الإيمان إلى حرية الفكر)،ذلك الإنسان الذي أتحفني الزمان بالتعرف عليه فيما أتحفنا يومذاك،يوم كنا في مهرجان الشباب والطلاب في موسكو عام1957؛ فلست من الكفاءة النقدية التي تفي الكتاب حقه.
كنا نتمشى في الشارع القريب من فندقنا في موسكو،عندما التقيته، وعرّفني على زميلة كانت معه؛ هي (محسنة توفيق) التي صار لها شأن كبير في مجال الفنون المسرحية، والمواقف الوطنية.كان ذلك عام1957.ولم نلتق إلا بعد ثلاثة أعوام في خلية حزبية شيوعية،شاء الحزب أن أكون مسؤولاً عن تنظيمها بعدغياب منظمها الشاعر محمد صالح بحر العلوم لأسباب لا أعرفها.وكانت الخلية تضم عدداً من الكتاب والأدباء المرموقين،من بينهم عبد الرزاق عبدالواحد ورشدي العامل وغايب طعمة فرمان وسليم غاوي ومحمد شرارة؛ وكنت أصغرهم سنّاً،وكان ذلك يسبب لي حرجاً،إذ كيف لي أن أنظم شخصاً بقامة محمد شرارة الذى أضنى عمره في النضال قبل أن أولد أنا؟ولكن محمد شرارة كان أخاً ورفيقاً وأستاذاً من الطراز الأمثل.تقول السيدة بلقيس،في (ص294وهامشها) إن اجتماعاتنا كانت تُعقد في بيت الشاعر محمد صالح بحر العلوم، والحقيقة إنها لم تعقد أبداًفي بيته،إنما كانت في بيوت أخرى من بينها بيت الشاعر عبد الرزاق عبدالواحد في الكاظمية. ولم يكن بيننا في هذه الخلية قطعاً عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف.لم يكن أحد منا يظن أن محمد شرارة،هذا الكاتب المكافح على مدى ستين عاماًلميجد له مستقراً يؤيه،لا في بيروت ولا في بغداد،وهوينتقل من بيت إلى بيت اثنتي عشرة مرة في بغداد وحدها،وأنه وعائلته عانوا من عسر العيش والمطاردات في الرزق وفي العمل وفي الإنتاج الفكري هذه المعاناة التي كان يخفي علينا الكثير منها،نحن تلامذته ورفاقه،لعزّة نفسه ورفعته،ومعنوياته العالية واكتفائه بدوره التنويري الذي تجاوز منجزه الفكري إلى واقعه الكفاحي الذي لميبخل به في أحلك الأزمات. فطورد وحوصر وضويق،ولم يرمِ قلمه ولم يؤجل موقفه الوطني والإنساني لحظة واحدة. إنه من الشجرة الوارفة التي أرسلت أفياءها وهي تقاوم الريح والغبار وقسوة الطبيعة وظلام الأفكار.بلقيس،في هذا الكتاب لم تكتف برسم صورة واسعة لحياة والدها،بل عززت ذلك بالنصوص الكثيرة التي تفصح عن دقّة المعنى وحلاوة الأسلوب ووضوح الرؤية التي عُرف بها الفقيد. وراحت ترسم صورة مفصلة عن البيئة التي عاصرتها،والوضع السياسي،والحياة العائلية،فجاءت بالكثير من الممتع والمؤلم لما في بغداد في ذلك الزمان،موثّقة ذلك برسائل ومقابلات جعلت الكتاب وثيقة أدبية وسياسية،وأغنته بهوامشها الشخصية التي منحته نكهة أدبية رغم اختلاط المناهج التي اعتمدتها والأغلاط التي حفل بها الكتاب،نحوية ولغوية وإخراجية،وقد أخبرتني بأسبابها،وهي التدخل بأنظمة تصميم الحروف،ممايستلفت العناية في طبعته التالية،وهو ما وعدتني به المؤلفة،فلها الشكر على ما وعدت وما أنجزت.محمد شرارة يستحق منا أن نتملى إنجازه الفكري والأدبي بوجه خاص،في مدار أوسع مما في الكتاب. فهو ساحر الأسلوب دقيق المعاني أنيق العبارة بارع التحليل،سواء في مساجلاته الفكرية والسياسية،أم في كتاباته الإبداعية؛ وفي كتابيه (نظرات فيتراثنا القومي) و (المتنبيبين البطولة الإغتراب) الذين جمعتهما ابنته الفقيدة حياة شرارة الكثير من تلك النصوص الثمينة الجديرة بالمراجعة والتقييم.
محمد شرارة الشجرة الوارفة
نشر في: 19 مارس, 2010: 04:16 م