خالد السلطانيمعمار وأكاديميتُعرّف العمارة بتعابير ومدلولات عديدة، وربما مختلفة. لكن التعبير الاكثر ايجازاً والاقرب الى "طبيعتها" و "واقعها" هو التعريف الذي صاغه "لو كوربوزيه" (1887-1965): معمار القرن العشرين الاشهرمن<إن العمارة: هي الفضاء المحصور>
؛ ويضاف اليه احياناً بالفضاء الذي يقوم بوظيفة ما؛ فهي اذن، <الفضاء المحصور المؤهل لاداء وظيفته>. بيد إن الاقتصار على دلالات هذا التعريف لمفهوم العمارة سيكون امراً مجحفاً بحق العمارة وبحق مروحة فكرية عريضة ترمز اليها تلك الكلمة، التى عدّها الاغريق قديماً "بام الفنون" الجامعة لاجناس ابداعية عديدة. فالتنوع التعريفي لمفهوم العمارة بالوقت الحاضر يكتسب شرعيته (ومصداقيته ايضاً) من طبيعة المتغيرات الهائلة التى طرأت على المعرفة، جراء الثورة المعلوماتية وتبعاتها التى نحن الان ، شهود عليها وعلى نتائجها. بمعنى آخر، اذا كان معنى العمارة في السابق ينطوي على فهم دلالي محدد وغالباً ما يكون احاديا، فان الخطاب المعرفي المعاصر يتكفل بتقديم معانٍ عديدة لمفهوم العمارة، ذلك المفهوم القائم كما ذكرنا، على اختراقات نوعية، بعيدة عن "وهم التمثيل ووهم المنطق ووهم التاريخ" وفقاً لاطروحة "بيتر ايزينمان" (1932) P. Eisenman، الذي يعتبر احد اشهر المعمارين الممارسين المعاصرين المشتغلين في تنظير وتعقـّب ماهية العمارة، العمارة بكل تنويعاتها الاسلوبية ونماذجها التاريخية. ومقالنا الحالي، يبحث عن "وجه" آخر للعمارة، الذي يضيف مفهوماً خاصاً الى مفاهيم العمارة المتعددة، ويتوق الى تقصي حيثيات "منظومة" وجوده، بعيداً عن تلك الاقتصارات الساعية وراء تكريس معنى واحد ومحدد للعمارة. في كتابه الشيق " تنقيح ايزينمان" Re-Working Eisenman الصادر سنة 1993، والذي يعتبره كثر من المؤلفات المهمة المعنية في عمارة ما بعد الحداثة؛ يتحدث "ايزينمان" عن مشاكل تواجه العمارة، بضمنها مشكلة " عدم امتلاك العمارة نظام اشارات صريح وواضح، كما في اللغة، فهي لا تستطيع التعبير عن حزن او سعادة، او اي مفهوم حسي او فلسفي، فما تستطيع اللغة التعاطي معه، لا تستطيعه العمارة." ؛ ويذهب الى القول "..بان الادب بمقدوره ان يجعل من العلاقة بين الدال والمدلول، علاقة مبهمة وغامضة... لكن تحقيق ذلك صعب على العمارة، لان كليهما الدال والمدلول مدمجان دائما مع بعضهما فيها ( الوظيفة والرمزية والشكل الجمالي)، وليسا منفصلين كما في اللغة.." وعليه يتعين فصل علاقة الواحد –لواحد (المتسمة بها العمارة)، مابين المعنى والوظيفة، المعنى والانشاء، والمعنى والشكل. بحيث يصبح من الممكن اجتراح وخلق معانٍ عديدة لها؛ ويسمي " ايزينمان" هذا الفصل بالازاحة Displacement. ويصل الى مفهوم "... ان ازاحة العمارة عما يجب ان تكون عليه، لا يعني ان المبنى المصمم وفق اشتراطاتها لا يعمل... فالمبنى يتعين عليه ان يعمل ولكن ليس بالضرورة ان يبدو وكأنه يعمل جيدا؛ اي ان انكار الدور التقليدي للوظيفة لا يعني اهمال الوظيفة نفسها!. وانما اقتراح بان يعمل المبنى دون ان يرمز للوظيفة مباشرة، اي قطع الصلة بين الشكل والوظيفة..". ما يقترحه، اذن، "بيتر ايزينمان" علينا <بقطع الصلة بين الشكل والوظيفة>، سيؤسس لحالة تفضي الى مقاربة جديدة للتعاطي مع مفهوم العمارة، مقاربة بمقدورها ان تجترح "اوجهاً" متعددة لها (للعمارة)، قد لا تكون نتائجها بالضرورة ضمن سياق التصورات التى اعتدنا عليها. وسنسعى في مقالنا، هنا، تعقب تحولات "الوجه" المنحوت تحديداً، ليكون المبنى المنحوت مع الاحتفاظ دائما في الذاكرة بحالة "قطع الصلة بين الشكل والوظيفة"، تلك الحالة التى ارشدنا "ايزينمان" اليها. يحفظ لنا التاريخ، او بالاحرى تقدم الذاكرة المعمارية، أمثلة عديدة لتوظيفات متفردة للوجه المنحوت الذي يتبدى انجازاً معمارياً. وبالطبع يحضر هنا، الاثر المصري القديم ( ابو الهول) بالجيزة بالقرب من القاهرة، كتمثيل بليغ لتلك الامثلة. يعود تاريخ ابي الهول الى فترة حكم الاسرة الرابعة الفرعونية بمصر( 2720-2560 ق.م). انه تمثال ضخم يمثل جسم أسد بوجه بشري، لكن من الصعب عده عملاً نحتياً صرفا، من دون ذكر خاصية الدور المعماري كمشارك في توضيح وانجاز ذلك العمل. فابعاده الضخمة، (يمتلك ابو الهول ارتفاعا بحوالي 22 مترا وبامتداد طولي يصل الى 72 متراً اما عرض وجهه فيبلغ نحو 20 مترا)، تجعله لان يكون عملا معماريا- نحتيا ذا مداليل ومعانٍ كثيرة. يربض ابو الهول بالوادي، امام الاهرامات الفرعونية الثلاثة: "خوفو"، و"خفرع" و"من كاورع" الشهيربـ "منقرع". ويقال ان رأسه البشري يجسد صورة الملك خفرع نفسه، والذي في عهده تم بناؤه وتشييد الهرم الثان
"وجــــه" الـعـمــــارة الآخـــــر
نشر في: 19 مارس, 2010: 05:22 م