TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: الخيال فـي الشعر والخيال فـي العمارة- 2

تلويحة المدى: الخيال فـي الشعر والخيال فـي العمارة- 2

نشر في: 19 مارس, 2010: 05:23 م

شاكر لعيبيهل يمكن أن توجد أعمال معمارية "سوريالية" لكنها لا تمتلك وعياً بسورياليتها الدفينة؟. تاريخ التصوير الأوربي يجيب بنعم. ويقدّم الرسّامَيْن بوش وأرشيمبالدو على سبيل المثال. وفي تاريخ العمارة؟.إن تاريخ العمارة هو مفصل تأسيسي في تاريخ الفن جوار النحت والتصوير، وهو مثل تاريخ الفن لم يكف عن استبعاد بعض الفنون الأساسية في تاريخ البشرية،
 أو لم يتناولها إلا عَرَضاً طالما أنها لا تنطلق من المفهومات التأسيسية للفن الغربي الضارب في الفلسفة والجماليات اليونانية، مثل العمارة اليابانية والصينية وعمارة جنوب شرق آسيا برمتها رغم امتلاكها لخصائص تقنية وجمالية ومفهومية شديدة الخصوصية وانطوائها على وعي نظري متمايز ومنطلقات تستجيب لتاريخها وفلسفة شعوبها وبيئاتها. ما زال الأمر كما عليه منذ وقت طويل في مادة تاريخ الفن. رغم الانشغالات العميقة المعاصرة بفنون الشعوب غير الأوربية، كالفن المصري القديم، فإن الظاهرة التي يمكن وصف تاريخ الفن فيها بأنه متمحور على ذاته لم تتزحزح إلا قليلاً. كان بإمكان فنان ومؤلف اسمه إيميل سولدي أن يلاحظ عام 1881 الأمر ذاته ليكتب كتاباً ريادياً ضخماً عنوانه "الفنون المهملة" تناول فيه الفن الفارسي والمصري والكمبودي وبعض فنون وفناني العصور الأوربية الوسطى الذين يجدهم أفضل من أقرانهم في عصر النهضة. دروس سولدي المبكرة، مع ما يشوبها من تصورات مفهومية وتاريخية واصطلاحية قابلة للنقاش، نُسيت تماماً وهُمشتْ في العقود التالية. ومثلما لم يُدْرِج تاريخ الفن العام، جدياً، تاريخ التصوير الرافدينيّ والمصريّ ثم الإسلامي إلا في وقت متأخر نسبياً، والتي ما زال يمنحها في مصنفات تاريخ الفن الضخمة بضع صفحات مقارَنة بالفنون اليونانية والقوطية وفن عصر النهضة الأوربي، فإن تاريخ العمارة ما فتئ بشكل عام يستبعد العمارة "البدائية" و"الكهفية" و"الريفية" وغير ذلك مما اعتبر "عمارة غير مثقفة" كالعمارة النبطية في البتراء وعمارة كابادوسيا في آسيا الوسطى (تركيا حالياً) وعمارة منطقة كاندوفان في إيران وعمارة باندياكارا في مالي وفي أجزاء أخرى من القارة الأفريقية. وكذلك "عمارة القصور" في تطاوين تونس وجبل نفوسة في ليبيا. استبعاد قادم من أنها لا تخضع لجماليات "الصارم" والهندسي المدروس بدقةٍ، الخاضع لتقسيمات وأشكال معمارية ثابتة معروفة منذ اليونان والرومان، ومن أنها بشكل خاص عمارة لا تقوم على مبدأ الرسوخ والديمومة عبر الحجارة الصلبة ولكن على مبدأ “المؤقت” القائم على مواد هشة كالطين والملاط الذي يشدّ الصخر بصعوبة، أي أنها لا تهتم بمبدأ القوة ولكن الضعف. وهذان المبدءان في الحقيقة يتناوبان الأدوار وليسا حقيقتين منفصلتين عن بعضهما. في إرادة القوة ثمة الكثير من النثر وفي مبدأ الهشاشة ثمة الكثير من الشعر، بل الشعر في أشكاله الأبعد في المخيال.دائما يوجد في الشعر شيء من الروح السورياليّ لكنه ليس كله من السوريالية. هذه نقطة حاسمة. نتكلم في المقام الحالي عن الشعر بالمعنى الذي يطوي المفهومات السوريالية المخصوصة وينطلق منها، حيث تقدِّم عالماً غنياً بالصور المتخيَّلة الخارقة التي لا تتوقف عند الفنتازيا أو عند غير الممكن واللاشعوري وحدهما.هل تستطيع العمارة امتلاك عالم الشعر بالوصف هذا ضمن حدود لغتها الخاصة بها؟. هل تستطيع أن تعلن (شعرية) صريحة، شعريتها التي تحتضن (الشعر) ويحتضنها؟.ضمن التعريف الممكن للفن الشعريّ الذي سيبدو للوهلة الأولى حاضنة لكل عمل إبداعيّ مهما كان نوعه، لغوياً أو بصرياً، فإن نصيب العمارة سيبدو في آن واحد ضئيلاً أو كبيراً حسب فهمنا للفن الشعري، للشعر، وهذا الفن لا إجماع حول طبيعته مقابل الهاجس المُجْمع عليه تقريباً بشأن ما هو "من طبع شعري" مقارَنة بما هو "من طبيعة نثرية" مباشِرة، ذات رسائل واضحة. نحن نعرف، بشكل عام وشبه غامض، فيما إذا كان نصٌّ ما جديراً بالطبيعة الشعرية انطلاقاً مما يستفزه في أعماقنا العميقة، وهو لن يفعل إلا إذا امتلك “الوسيلة” للذهاب إلى تلك الأعماق. من هنا صعوبة الإمساك بتعريف له رغم وجود إحساس بديهي بطبيعته. ثمة جوهر للشعريّ معروف غير ممكن التعريف بدقة معيارية. وبالطبع فإننا نميّز جيداً بين (الشعرية) و(الشعر) رغم ما قد يبدو في الفقرة السابقة من لبس بينهما. إنه التباس مقصود يستهدف إدغامهما، للحظةٍ، طالما أن الحديث ينصبّ على فن العمارة التي ليست من الأنواع الإبداعية اللغوية.ما يعقد الأمر عند معالجة حضور جوهر الفن الشعري في فن العمارة، هو اختطاط العمارة لنفسها، أو اختطاطنا لها، وظيفة محدَّدة. السكنى هو"الملمح الجوهري للشرط الإنساني" على ما يقول هايدجر Heidegger منطلقاً من علاقة لغوية بين مفردتي السكن والعمارة في اللغة الألمانية، وهذه العلاقة موجودة في العربية أيضاً (مسكن) و(سكن)، والفعل (عمَّر) والمفردة (العمارة). لا يختط الشعر لنفسه وظائف صارمة المعالم، إلا إذا كان الحافز الجماليّ وظيفة. وهنا يتوجب التنبُّه إلى أن مصطلح (الوظيفة) يجب أن يُفهم بمعنى أوسع من الاستخدام المبتذل لها، أي بوصفها في نهاية المطاف

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram