فارس سعد الدينعلى الرغم من نشأة الفقر والحرمان التي امتاز بها شيخ الموسيقيين والشعراء الملا عثمان المولوي الموصلي عند ولادته بالموصل عام 1854 كأبن رابع لوالده السقاء (عبدالله) حيث لم تكن تلك المهنة (السقاية) توفر للمشتغلين فيها حياة مرهفة، فقد ازداد اصراراً على السعي وراء العلم والادب، وهو الصبي الذي ابتلاه الله بمحن كثيرة منها وفاة والده وهو في سن السابعة من عمره،
لم يشتد عوده على المواجهة لحياة الفقر المدقع الذي كانت تعانيه العائلة، ومن اصابته بمرض الجدري اللعين الذي كان منتشراً في ذلك الزمن وهو ابن الثامنة والذي سرى بجسده ليلقيه آخر المطاف بصيراً. لكنه اصر على السعي والاجتهاد وطلب العلم والمعرفة، حتى تصدر المجالس شيئاً فشيئاً كقارئ للقرآن الكريم، على القراءات السبع، ثم العشر، ثم اصبح خطيباً مفوهاً، ومداحاً مميزاً وملحناً مبدعاً. وبرع في علم الموسيقى والاوتار والشعر بعد ان كفله (محمود العمري) وكان من رجالات الموصل المبرزين في وقته، وكانت داره بمثابة منتدى لرجالات الموصل من العلماء والشعراء والخطباء والادباء والفنانين، وقد نشأ الفتى الموهوب الملا عثمان مع اولاد العمري اخاً وصديقاً، لكنه امتاز عنهم بابداعه المتشعب في مضارب العلوم والادب والفنون، فهو القارئ المجد للقرآن الكريم، وهو الشاعر المتصوف وهو الموسيقي المنشد صاحب الصوت العذب، وقد استطاع في مرحلة مبكرة من شبابه ان يؤسس المدرسة المقامية المولوية المتخصصة بالانشاد الديني بعد ان هضم ارثاً ضخماً امتد عمقه الى الدولة العباسية، مستشرقاً ما افرزته محلية مدينة الموصل التي اجادت مدرسة مقامها اجادة بالغة بما انتجه ملحنوها وقراؤها، والتي احدثت بنكهتها الخاصة النابعة بالاساس من البيئة المنفتحة والعقلية القادرة المتمكنة على التلقي، الكثير من الاضافات والتنويعات على المدارس الاخرى، اذ ان ما يميز مدرسة الموصل المقامية هي حرية التصرف الحر بالغناء حيث يتنقل القارئ او المنشد بين النغمات كما يشاء مرتجلاً الالحان حسب براعته واجادته لها وتمكنه من ادائها، ليرجع الى البداية لاختتام المقام، على عكس المدرسة البغدادية التي قيدت حدود القراءة والانشاد بمقام واحد منذ البداية وحتى الختام. من هنا كان التنوع والاجادة والابداع الذي صاحب الموسيقار الشاب الملا عثمان في مسيرته اللحنية او الشعرية، والتي لم يبرز فيها خلال مرحلته سواه. اما كونه بصيراً، فليس صعباً على المتقصي ان يتلمس كون العثرات التي لاقاها هذا المبدع الكبير في طرق تنقلاته اليومية كانت اكبر بكثير مما لاقاه وهو حامل لعاهة العتمة والظلام. فلم يركن الى داره، ولم ينزو او يقفل باب العلم، بل اقتحم العالم المضئ من اوسع ابوابه في ميادين العلم والادب والسياسة كذلك، متدافعاً بلطف الفنان الحساس المرهف مع المبرزين ممن زاحموا عصره على مانال من مكانة مرموقة شعبياً ورسمياً، حتى صار مطلب كل والٍ او امير او حاكم، وقد امتاز برحابة الصدر ورهافة الحس وحسن التصرف، وحبه لوطنه وارضه وشعبه الى جانب امتيازه في التفوق والابداع، حيث نهل على يديه الكثير من اعلام القرن التاسع عشر وكذلك المحدثين من عمالقة القرن العشرين من امثال سيد درويش واحمد ابو الخليل القباني وشيخ قراء مصر محمد رفعت وفي العراق، المطرب الكبير محمد القبانجي، ومثله في استانبول كاظم اوز. تنقل الشاب الموهوب الملا عثمان الموصلي سائحاً وباحثاً ومعلماً ومستشاراً، ثم سفيراً لخليفة الدولة العثمانية السلطان عبدالحميد آنذاك، وقد قادته بصيرته وطموحه وتوازنه النفسي لاصدار مجلة (المعارف) في مصر خلال الفترة من 1895 الى 1900 وفيها (اي في مصر خلال اقامته) اصدر كتاب سعادة الدارين، ثم اصدر كتاب المراثي الموصلية، ومن ثم كتابه الثالث (الاجوبة العراقية على الاسئلة الايرانية) وله في الشعر تخميس لقصائد ابن النحوي وابن دريد وابن الخياط الدمشقي وعبدالباقي العمري. وقد انضوى بعد اكتمال نضجه المعرفي في مجال الموسيقي والالحان تحت عباءة (المولوية) التي اجاد فيها، وقد اباحت له هذه المدرسة (المولوية) حرية الحركة في التنغيم والتلحين لقدرتها على الجمع بين التصوف والموسيقى، فأصبح من اقطابها، وانشأ لها تكية خاصة في الموصل، بعد عودته من مصر والشام، عرفت بتكية مسجد شمس الدين في محلة باب الجديد. لقد كان الملا عثمان المولوي الموصلي شخصية فذة حقاً رفض ان يكون رهيناً لأي واقع يملى عليه، وابى الا ان يترك فعلاً انسانياً مؤثراً يخلده على الرغم مما كان عليه من ضعف الحال وازدراء المقام وفقدانه للبصر في مطلع نشأته وقد استطاع هذا العبقري ان يؤثر في محيطه، وكان بمثابة المنارة البارزة في ابداعاته الادبية والموسيقية والإنسانية.
الملا عثمان الموصلي مؤسس مدرسة الانشاد الديني
نشر في: 21 مارس, 2010: 04:41 م