TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > وقفة: الإنسان الديمقراطي

وقفة: الإنسان الديمقراطي

نشر في: 21 مارس, 2010: 05:01 م

سعد محمد رحيمنعلم أن الديمقراطية بعدّها نظاماً سياسياً تجد مقوماتها في دستور مقبول وقوانين فعالة ومؤسسات ذات كفاءة عالية. لكن هذا النظام لن يُرسّخ ويُعزّز، ويغدو حقيقة قائمة، من غير إيجاد الإنسان/ الفرد الديمقراطي الذي يحمل أفكار وقيم وتقاليد وأعراف وأخلاقيات الديمقراطية في جزئيات وعيه وسلوكه الاجتماعي.
وقد احتاجت الأمم ذات الأنظمة الديمقراطية إلى عشرات، وأحياناً إلى مئات السنين، من أجل ذلك. وحين ننظر بروية وموضوعية إلى تجربتنا الديمقراطية الفتية في العراق نلمس تباشير تحوّل مذهل قد حدث، وفي غضون سنوات قليلة، عند شرائح واسعة من مجتمعنا. ويكفي أن تتكلم مع الناس في أي مكان (في الحافلات أو المقاهي أو المنتديات أو خلال المناسبات الاجتماعية أو في صالات الانتظار في الدوائر الحكومية، الخ) لتكتشف أن لغة ومعايير وتوجهات كثر منهم قد نضجت بدرجة عالية. نذكر كيف دب اليأس قبل سنوات في نفوس المؤمنين بالديمقراطية حين كان الولاء القبلي والطائفي والعرقي يزيح الولاء الوطني، والمواقف الانفعالية تُسكت صوت العقل عند نسبة كبيرة من المجتمع، فيما الدم العراقي الطاهر يسيل بفعل ضربات الإرهابيين من كل صنف ولون. وقد قيل يومها بأننا لسنا مؤهلين لخوض مثل هذه التجربة العويصة. وأن عقوداً من القهر والاستبداد والحروب قد قتلت فينا أي استعداد للدخول في معترك نظام سياسي قائم على مبادئ حقوق الإنسان والتعددية وحرية الضمير والإعلام الحر واحترام الرأي الآخر ومبدأ المواطنة واستقلال القضاء وتداول السلطة. وهناك من تحدّث (ولا يزال بعضهم يتحدّث) عن ضرورة صعود ديكتاتور جديد، يستلم مقاليد الحكم، ويضرب بيد من حديد ليفرض الطاعة والأمن والاستقرار. غير أن مسار التجربة ولاسيما في محطتها الانتخابية الأخيرة أشّرت تغيّراً واضحاً في سلوك قطاعات واسعة من ناسنا ووعيهم السياسي. ونستطيع القول أن من يغادرون طور الطفولة إلى طور المراهقة ومن ثم إلى طور سن الرشد والنضج في الوعي والسلوك السياسيين سواء في خطابهم ولغتهم أو في خياراتهم باتوا الأغلبية، ويشكّلون اليوم سلطة ضاغطة على خطاب السياسيين وأجنداتهم وممارساتهم. ولهذا صارت الوطنية والبناء والتغيير شعارات لجميع التيارات والأحزاب والقوى السياسية التي دخلت معركة الانتخابات. إن هذا الإنسان/ الفرد الديمقراطي لم يعد يقتنع بالشعارات البراقة والخطب الرنانة والوعود المعسولة بل يريد فعلاً على الأرض يغيّر من وضعه المعيشي والأمني والثقافي، وبيئته المدنية والحضارية ويضمن المستقبل الزاهر لأولاده وبلاده. وقد بات أشد دراية بالخدع والأكاذيب والأضاليل والمناورات السيئة التي تحقق مصالح فئات ضيقة على حساب مصلحة الشعب. كما امتلك هذا الإنسان الديمقراطي (العراقي) حاسة نقدية حادة يقدر من خلالها تشخيص نقاط الضعف والخلل في أية ممارسة سياسية تمس مصالحه وتلحق بها الضرر، إنْ على المدى القريب أو على المدى البعيد.    لا يمكن الجزم بأننا وصلنا إلى مرحلة متقدمة جداً في مسيرتنا الديمقراطية، وأن أفراد المجتمع كلهم قد أصبحوا ديمقراطيين قلباً وقالباً. غير أن ما وصلنا إليه، على الرغم من بعض الثغرات والعثرات، فاجأ المؤمنين بالديمقراطية والمتشككين فيها في الوقت نفسه، وهكذا راح الخطاب السياسي للتيارات والأحزاب يسعى لإرضاء وعي وتوجهات الإنسان الديمقراطي العراقي، وهذه طفرة نوعية لا يُستهان بها أبداً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram