TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > خارج العاصمة :زمن الشعر

خارج العاصمة :زمن الشعر

نشر في: 22 مارس, 2010: 04:54 م

محمد خضير يتنازع حياةَ الإنسان زمنان، يؤطران أفعاله وينسقان حركاته ويفسران شخصيته، هما زمن الشعر وزمن الرواية. إذا رأيتَ جارك يغادر داره مع طلوع الشمس، ملقياً على كتفه كيساً من الخيش يجمع فيه القناني والعلب الفارغة، أواني الفافون العتيقة، أسلاك الكهرباء والبطاريات التالفة، وما أشبه من اللقى والتوافه، فاعلم أنه يعيش في زمن الرواية.
 وإذا خرج جارك الثاني بكيس من القماش معلق بطرف قصبة صيد السمك، وقصد زاوية هادئة من ضفة أحد الأنهار تبسط عليها شجرة معمرة ظلها بقية النهار وألقى بصنارته في الماء، مغالباً النعاس الذي يجلبه التيار وسكون المكان وطول الانتظار، فاعلم أن صاحبك هذا يعيش في زمن الشعر.نسقان متجاوران يحفّان فعلين متباعدين، يجلبان التعب والشقاء أو الرضا والفرح، يجريان ولا يسأل صاحباهما متى تحل الجولة الأخيرة لسعييهما. يعود الرجلان مع غروب الشمس مثقلين ومتعبين، فيصعدان السلم إلى سطحي داريهما ويستلقيان على سريريهما ويغطان في نوم عميق. عادا وقد امتلأ كيسا زمنيهما بأنواع كثيرة من الأفعال والانطباعات، لكنهما تركا وظيفة فرزها وتفسيرها إلى شخصين آخرين سيحولان (زمانيهما) الأصليين إلى (زمنين) إبداعيين هما زمن الرواية وزمن الشعر، وسعييهما الفطريين إلى نسقين راقيين هما نسق السرد ونسق التأمل. أما هذان الشخصان اللاحقان فهما الروائي والشاعر، الواقفان كحاجبين على جانبي بوابة الحياة اليومية، ينظران ويتفكران بمجرى الخلائق العجيب، ويدقان بمطرقتيهما ناقوسَ ساعة البدء والانتهاء.غالباً ما يهمل عمالُ النهار سقطات أفعالهم وهفوات كلامهم وأوصاف أشيائهم، فهذه مآلها ومنتهاها إلى صحائف الحاجبين الحارسين بوابة الدخول والخروج، وساعة الرقود والسكينة، لا يفوتهما تسجيل شيء من ممتلكات السيل البشري الغافل عن جريان الزمان. أغفلنا من سيرة الشخصين السابقين الممثلين لزمن الرواية وزمن الشعر رتوشاً وخطوطاً كثيرة (كلب الدار، دراجة العمل، مساحة سطح الدار، نوع السرير، الزوجة والأطفال، مقدار الرزق والنصيب.. إلخ) سيلحظها حارسا الزمنين اليقظين ويعبئانها في كيس كل (زمن) حتى عنقه.عشنا زمنَ الشعر أغراراً وتجرعنا فتنه وخدعه في كؤوس من بلور وقحوف من فخار، وفرطنا أعمارَنا في مشاطرة الأبرياء والمخدوعين حصصهم البائسة، ولمّا ندرك بعد حق التصرف في حصتنا من بيدر زمن الرواية. بدأنا زمن الشعر بهواية جمع الطوابع، وشغفنا بإعلانات الأفلام السينمائية، قبل أن نشاطر شعراءَ زماننا قصائدهم الممنوعة فندوّنها في كراسات خاصة نتخاطفها في فرص دروس المدرسة الثانوية. تقفينا خطى الشعراء الهائمين في دروب الخيال الريفي، وكانت كراستي تحتوي على قصيدة (حسناء الكوخ) لبدر شاكر السياب، أردتُ باستنساخها وتوزيعها على طلاب الثانوية اكتساب درجة القربى من (جمعية الشعراء) التي كانت تضم كتبة صحف ومحاسبي بنوك ومراقبي بواخر ومعلمين وطلاباً بالغين، يرعاهم شعراءُ الكوخ المتوارون عن الأنظار، ويومئون إليهم من وراء القناطر ليتبعوهم إلى معازلهم في بساتين النخيل.أفَلتْ مرحلةُ الكوخ الشعري بضياع كراسة الشعر المنسوخ، عندما حملها صديق من (جمعية الشعراء) ينحدر من أصل أفغاني، واتجه بها إلى صومعة السجن بدلاً من اتجاه الكوخ المختفي وراء القناطر. أجبر حلاقُ السجن صديقي على أن يمسك كراسة الشعر بين يديه ريثما ينهي حلاقة رأسه، فغطى الشَعرُ المتساقط على الكراسة صفحتين متقابلتين نُسخت عليهما قصيدة ثانية للسياب لعلها قصيدة (زهور الدفلى). ثم قصّ صديقي الأفغاني أظافرَه وحمل الكراسة بأقذارها ورماها في مزبلة السجن. سأل الحلاقُ صديقي إنْ كان شاعراً فلما وافقه على ظنه نصحه أن ينظم قصيدة يعدّ فيها أيامه الباقية في السجن مرجحاً أنها ستبلغ عدد شعرات رأسه المحلوقة وقلامات أظفاره المقصوصة.خرج صديقي الأفغاني الذي يكبرني بعامين من السجن قبل أن يكمل محكوميته، باندلاع ثورة 14 تموز 1958، وانتمى كلانا إلى جمعية أسسها مدرسُ اللغة الإنجليزية الهندي الأصل، وضم إليها عدداً قليلاً من معارفه، ابنته مربية الأطفال، وكاتب القنصلية الهندية، وطالبين من صف السنة الأخيرة. أطلق مدرسُـنا اسم (الأنكور) على جمعيتنا اشـتقاقاً من (المرساة) التي تثبت عوامةً مربوطة على الشاطئ المقابل للقنصلية، كانت مسكن المدرس وابنته، ومقر اجتماع جمعيتنا. كانت جلساتنا الأسبوعية أو الشهرية في العوامة تبدأ بعد فترة الظهيرة وتطول حتى ساعات الليل الأخيرة، نقرأ خلالها أشعار طاغور ونتعلم مفردات من قاموس الملاحم الهندية، وتنتهي عادة بالتنويم المغناطيسي الذي يهيمن المدرسُ الحاذق بوساطته على حواسنا.لم أدوّن كلمة واحدة من محاضر جمعية (الأنكور أو المرساة) التي لم تدم جلساتها حولاً كاملاً، فقد مكثتُ نائماً في رأس مدرس الإنجليزية الهندي خمسة وأربعين عاماً، وعندما استيقظتُ هرعتُ إلى دفاتري وصببتُ عليها قصة العوامة عام 2003 حالما بزغتْ في خاطري لفظة (البوراني) التي تعني ـ القصاص القديم ـ في قاموس الملاحم الهندية. ظننتُ أنني غادرتُ زمن الشعر بعد أن رمى صديقي الطالب بكراسة الشعر في مزبلة السجن، لكن ذكرى العوامة المربوطة تحت أشجار البانيان وسحر العيون البنغالية وقوة التأثير المغناطيسي للألفاظ القديمة أعادتني إلى زمن الكوخ الشعري

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram