TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > اوراق :ترويض الواقع

اوراق :ترويض الواقع

نشر في: 23 مارس, 2010: 05:42 م

محمود عبد الوهاب في بداية التكوين الثقافي ، وغالباً في مطلع العقد الثاني من العمر ، يتسلل حلم " أن تكون أو لا تكون " ، حلم البدايات لترويض الواقـــع و تشييد الجواب الجمــالي ، منجزاً إبداعـياً . في سياق حلم البدايات يأتي كتاب " هُم وأنا "
سيرة ذاتية كتبها الروائي المصري المعروف صالح مرسي . تختلف كتابة هذه السيرة عن عدد من كتب السيرة الذاتية التي قرأناها، ويكمن اختلافها في مغايرتها لنهج الكتابة في هذا النوع . كثير من كتب السيرة الذاتية يولي أصحابها اهتماماً بالميلاد والنشأة والبيئة العائلية ، في حين أن سيرة صالح مرسي تنفتح على بدايات تكوينه الثقافي قاصاً ناشئاً بين مجموعة من أصدقائه الشباب ، وهم في نشوة أحلامهم وتطلعاتهم ، ثم تنفتح سيرته على مساحة أوسع  فأوسع ، بعد لقائه خمسة من كبار الأدباء هم نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي ويحيى حقي وتوفيق الحكيم . التقى صالح مرسي بنصوصهم أولاً ، ثم التقى بشخوصهم لقاء الحلم بالواقع ، ولقاء الصورة بالأصل. سيرة مرسي إذن سـيرة مغايرة للسيرة التقليدية ، أي أنها سيرة انتقائية لا مجال فيها لحياته الخاصة إلاّ ما كان موصولاً بتحولاته في الإبداع والثقافة . عنوان " هُم وأنا " إشارة لجيلين ، "هُم " بضمير الجمع الغائب ، إشارة إلى الجيل الذي سبق جيله ، و " أنا " بضمير المفرد المتكلم ، إشارة إلى الكاتب نفسه ، وهو من جيلٍ لاحق لجيل ما قبله ، وهكذا يبدأ صالح مرسي في سرد رحلته الأولى في الكتــابة باحثاً عن الطريق إلى " أن تكون أو لا تكون " ، وكانت رحلته عناءً وهمّاً  ، حتى التقى بأولئك الأدباء الكبار بعد حضور ندواتهم وتبادل إهداءات كتبه وكتبهم ، وبعد النشر المتواصل في الصحف والمجلات ، حتى أصبح كلّ ذلك اعترافاً بوجوده عضواً في "القبيلة الأدبية" كما يسميها ، ويعني الجماعة الأدبية. وكان قد صدر كتاب " هم وأنا " بعد أن تعالت صيحات جيل من الكتاب في مصر: " نحن جيل بلا أساتذة " . سيرة صالح مرسي في كلِّيتها ، هي مماثلة لسيرتنا الثقافية . كنّا نحن في البصرة ، وفي بداياتنا، نرصد مقاهي أدبائنا ، المقاهي الصيفية المسائية المنسـرحة بكراسيها إلى رصيف الشارع ، كنا نعمد أيضاً إلى أن  نقصد مكتبات مدينتنا . مكتبة فيصـل حمود  "الأهلية " حيث يجتمع ، كلّ مساء ، عدد من مثقفي مدينتنا وأدبائها وسياسييها في علبة المكتبة الممتدة إلى الداخل  على شكل شريط ظليل ومستطيل ، كاظم مكي حسن القاص والشاعر ، والأستاذ محمد جواد جلال الكاتب في الفلسفة واللغة ، وسالم علوان الجلبي الشاعر والكاتب  ، ورزوق فرج رزوق الشاعر ، وفيصل السامر الكاتب والمثقف الكبير. كنّا نترصدهم في الشارع والزقاق والمقهى والمكتبة كما لو كنا عشاقاً ، نحن أبناء ما دون العشرين.في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي ، كنا طلاباً في إعدادية العشار ، فوجئنا بالأستاذ فيصل السامر يدخل صفنا مدرّساً لمادة التاريخ ، كانت قامته السامقة وبشرته السمراء وعنقه المستدقة ، النافرة من بين الكتفين تثير فينا ، نحن طلابه ، إحساساً باتساق جسده الطويل ،  وبعد انتهاء الدرس تزاحمنا للخروج ، كان هو أمامي ، أتحاشى أن ألمسه  ، كما لو كان كائناً كوكبياً غامض الوجود ، هو نفسه الذي منحني الجائزة الأولى للمسرحية المبكّرة التي كتبتُها  "دموع اليتامى " وأنا طالب  عام 1948،  مُـثِّـلت ، في حينها، على المسرح المدرسي ، صافحني ، كنت ألمس راحة كفّه ، وهـي تطبق على يدي ، كما لو كانت الآن. حلم البدايات لترويض الواقع، وتشييد الجواب الجمالي، يتسع ويتسع حتى يصبح حلم الفرار من الزمن ، واقعاً وملاذاً ثرّاً تكمن  سطوته في مرح اللغة وحروف الرؤى، وتأسيس منجز يبقى دائماً كما لو كان هو المنجز الكلي في حوار الحياة.  

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram