محمود عبد الوهاب في بداية التكوين الثقافي ، وغالباً في مطلع العقد الثاني من العمر ، يتسلل حلم " أن تكون أو لا تكون " ، حلم البدايات لترويض الواقـــع و تشييد الجواب الجمــالي ، منجزاً إبداعـياً . في سياق حلم البدايات يأتي كتاب " هُم وأنا "
سيرة ذاتية كتبها الروائي المصري المعروف صالح مرسي . تختلف كتابة هذه السيرة عن عدد من كتب السيرة الذاتية التي قرأناها، ويكمن اختلافها في مغايرتها لنهج الكتابة في هذا النوع . كثير من كتب السيرة الذاتية يولي أصحابها اهتماماً بالميلاد والنشأة والبيئة العائلية ، في حين أن سيرة صالح مرسي تنفتح على بدايات تكوينه الثقافي قاصاً ناشئاً بين مجموعة من أصدقائه الشباب ، وهم في نشوة أحلامهم وتطلعاتهم ، ثم تنفتح سيرته على مساحة أوسع فأوسع ، بعد لقائه خمسة من كبار الأدباء هم نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي ويحيى حقي وتوفيق الحكيم . التقى صالح مرسي بنصوصهم أولاً ، ثم التقى بشخوصهم لقاء الحلم بالواقع ، ولقاء الصورة بالأصل. سيرة مرسي إذن سـيرة مغايرة للسيرة التقليدية ، أي أنها سيرة انتقائية لا مجال فيها لحياته الخاصة إلاّ ما كان موصولاً بتحولاته في الإبداع والثقافة . عنوان " هُم وأنا " إشارة لجيلين ، "هُم " بضمير الجمع الغائب ، إشارة إلى الجيل الذي سبق جيله ، و " أنا " بضمير المفرد المتكلم ، إشارة إلى الكاتب نفسه ، وهو من جيلٍ لاحق لجيل ما قبله ، وهكذا يبدأ صالح مرسي في سرد رحلته الأولى في الكتــابة باحثاً عن الطريق إلى " أن تكون أو لا تكون " ، وكانت رحلته عناءً وهمّاً ، حتى التقى بأولئك الأدباء الكبار بعد حضور ندواتهم وتبادل إهداءات كتبه وكتبهم ، وبعد النشر المتواصل في الصحف والمجلات ، حتى أصبح كلّ ذلك اعترافاً بوجوده عضواً في "القبيلة الأدبية" كما يسميها ، ويعني الجماعة الأدبية. وكان قد صدر كتاب " هم وأنا " بعد أن تعالت صيحات جيل من الكتاب في مصر: " نحن جيل بلا أساتذة " . سيرة صالح مرسي في كلِّيتها ، هي مماثلة لسيرتنا الثقافية . كنّا نحن في البصرة ، وفي بداياتنا، نرصد مقاهي أدبائنا ، المقاهي الصيفية المسائية المنسـرحة بكراسيها إلى رصيف الشارع ، كنا نعمد أيضاً إلى أن نقصد مكتبات مدينتنا . مكتبة فيصـل حمود "الأهلية " حيث يجتمع ، كلّ مساء ، عدد من مثقفي مدينتنا وأدبائها وسياسييها في علبة المكتبة الممتدة إلى الداخل على شكل شريط ظليل ومستطيل ، كاظم مكي حسن القاص والشاعر ، والأستاذ محمد جواد جلال الكاتب في الفلسفة واللغة ، وسالم علوان الجلبي الشاعر والكاتب ، ورزوق فرج رزوق الشاعر ، وفيصل السامر الكاتب والمثقف الكبير. كنّا نترصدهم في الشارع والزقاق والمقهى والمكتبة كما لو كنا عشاقاً ، نحن أبناء ما دون العشرين.في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي ، كنا طلاباً في إعدادية العشار ، فوجئنا بالأستاذ فيصل السامر يدخل صفنا مدرّساً لمادة التاريخ ، كانت قامته السامقة وبشرته السمراء وعنقه المستدقة ، النافرة من بين الكتفين تثير فينا ، نحن طلابه ، إحساساً باتساق جسده الطويل ، وبعد انتهاء الدرس تزاحمنا للخروج ، كان هو أمامي ، أتحاشى أن ألمسه ، كما لو كان كائناً كوكبياً غامض الوجود ، هو نفسه الذي منحني الجائزة الأولى للمسرحية المبكّرة التي كتبتُها "دموع اليتامى " وأنا طالب عام 1948، مُـثِّـلت ، في حينها، على المسرح المدرسي ، صافحني ، كنت ألمس راحة كفّه ، وهـي تطبق على يدي ، كما لو كانت الآن. حلم البدايات لترويض الواقع، وتشييد الجواب الجمالي، يتسع ويتسع حتى يصبح حلم الفرار من الزمن ، واقعاً وملاذاً ثرّاً تكمن سطوته في مرح اللغة وحروف الرؤى، وتأسيس منجز يبقى دائماً كما لو كان هو المنجز الكلي في حوار الحياة.
اوراق :ترويض الواقع
نشر في: 23 مارس, 2010: 05:42 م