نجم واليغداً مساءً تُعلن النتائج النهائية للانتخابات، الناس الذين تحدوا الإرهاب والقاعدة، ذهبوا إلى صناديق الاقتراع لأنهم آمنوا أن ورقة الانتخاب هي التي ستقرر مصير البلاد منذ الآن، وليس كما هي الحال في السابق، يقرر مصيرها جنرال أو جندي هارب كما في حالة الديكتاتور السابق صدام حسين، لكنهم أيضاً هم الناس الذين أفاقوا فجأة ليكتشفوا أن الديموقراطية، هذه الوصفة الساحرة الرائعة الجمال معرضة للخطر والدمار،
لسبب بسيط: أن مَنْ عليهم حراستها هم غير ديموقراطيين، ولو عرفوا أن زعيماً سياسياً سابقاً أكتشف قبل قرابة واحد وتسعين عاماً ما حصل لحد الآن، لكانوا رددوا معه صيحته ذاتها:"الديموقراطية تحتاج إلى ديموقراطيين"، أيضاً وبعد أكثر من تسعة عقود، تظهر أمامنا تلك الجملة وبقوة في هذه الأيام، الجملة التي نطق بها في نوفمبر 1919 الألماني فريدريش أيبيرت، أول رئيس للرايخ الألماني منتخب من الشعب مباشرة. صحيح أن سلطاته كانت محدودة، بروتوكولية غالباً، وأن أعضاء الرايخستاغ كانوا يستطيعون إقالته وقتما شاؤا، إلا أن الرجل الذي بدا ضخم الجثة في الصور، رغم المرض الذي أنهك أعصابه، لعب الدور الفعال في فترة حكمه التي بدأت في 11 نوفمبر 1919 واستمرت حتى موته بعد 6 سنوات، وكان صمام الأمان للمحافظة والتوازن للمرحلة التي حكم فيها، مرحلة سيطرت عليها الاضطرابات السياسية، فالرجل المولود عام 1871 لم يكن - لسوء حظه - غير رئيس لجمهورية تأسست للتو على أنقاض الإمبراطورية البروسية وهزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى، جمهورية لم تعرف الهدوء السياسي يوماً. الهزيمة العسكرية والديون ثم التضخم الاقتصادي وجيوش العاطلين عن العمل، كل ذلك دمغ التجربة الديمقوقراطية الفتية بدمغتها، كانت الاضطرابات تسيطر على الشارع، وكانت الخارطة السياسية للأحزاب مبهمة ومتداخلة مع بعضها، حتى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي كان فريدريش أيبيرت تسلم قيادته في عام 1913 بعد وفاة قائده الأسطوري أوغست بيبيل، كان منشقاً إلى حزبين، الوضع المضطرب الذي نشأ بعد ثورة نوفمبر 1918 الذي سمح للحزب الاشتراكي الديمقراطي بالصعود إلى السلطة بجناحيه المنشقين، الأول الملتف حول الخارجين عن الحزب بسبب موقفهم الرافض للحرب في عام 1914 بقيادة هوغو هاس وكارل ليبيخنيت، والجناح الذي وقف مع الحرب ورفع شعار الدفاع عن الوطن بقيادة فريديرش أيبيرت، الوضع هذا كان لابد له أن يترك ظلاله طبعاً ولعقود طويلة على ألمانيا التي أرادت توديع سنوات طويلة من الحكم الفردي للقيصر، والاعتماد بدل ذلك على النظام البرلماني الديموقراطي، أعضاء البرلمان هم الذين يفرضون السلطة، وليس الحاكم. أن مشروع الديموقراطية الضخم هذا كان عليه في بدايته أن يثبت نفسه في الواقع، ألا يظل مجرد نقاط دستورية مكتوبة، لأن واقع الأمور في تلك الفترة المضطربة كان يقول شيئاً آخر، فما أطلق عليه "ائتلاف فايمار"، الذي ضم الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الوسط الكاثوليكي والحزب الليبرالي اليساري الذي كان تحالفاً ائتلافياً لأحزاب لم تحصل على الأغلبية المطلقة في الانتخابات، أجتمع تحت سقفه متحالفون نظروا بريبة إلى بعضهم، تحينوا الفرصة تلو الفرصة الأخرى للإنقضاض على حليفهم، الأمر الذي جعل حكومة فايمار تفتقد أوتوماتيكياً إلى مصداقيتها، خصوصاً وأن بعض القوى التي جلست في البرلمان أو تلك التي انضمت تحت ائتلاف فايمار لم تؤمن بالنظام الديمقوراطي البرلماني وكانت تنتظر المناسبة لكي تنقلب عليه، وهذا ما جعل من الصعوبة تشكيل أغلبيات برلمانية دستورية تقود إلى تأسيس حكومة فعالة. من يؤرخ لتلك الفترة سيجد أن كل وزير وكل حزب تصرف بحرية، كأنه سلطة لوحده، أنصار وميليشيات. كأن تجربة ألمانيا تتكرر اليوم عندنا في العراق، ديموقراطية أكثر هشاشة من ديموقراطية فايمار الألمانية، فعلى الأقل ما ميّز التجربة الألمانية، هو أن تلك الأحزاب امتلكت تاريخاً طويلاً على عكس الأغلبية من الأحزاب العراقية التي تكاثرت مثل نبات الفطر في موسم ما بعد 2003، أو قبله منذ لقاء المعارضة العراقية في بيروت مارس 1991. لكن ما يجمع التجربتين ببعضهما هو سقوط الحكم الأوتوقراطي، المتمثل بالقيصر فيلهلم الثاني في حالة ألمانيا وبصدام حسين التكريتي في حالة العراق إضافة إلى تاريخ متراكم من نضال الناس في الحالتين، ففي حالة العراق جاءت التجربة الديموقراطية الناشئة بعد سلسلة من المقاومات الشعبية، بعد تاريخ طويل من نضال الأفراد ونضال مجاميع بشرية وأقليات، وإن من الإجحاف الاعتقاد، بأن 35 سنة من الحكم البعثي الديكتاتوري سقطت نتيجة لدخول القوات الأميركية والبريطانية وحسب، كلا، جورج بوش وتوني بلير وحلفاؤهم، قطفوا الثمرة الأخيرة من نظام تلقى ضربات عديدة على أيدي العراقيين، آلاف من العراقيين تمردوا على الديكتاتورية ومن لم يدخل السجون البعثية وعرف التعذيب على أيدي جلادي النظام ليخرج بعدها مخرباً أو منفياً فإنه إنتهى إلى عظام فاقدة الهوية في مقابر النظام البعثي الجماعية، وهو التاريخ هذا الذي عاشه العراقيون حتى الماضي القريب والذي أصبحت تفاصيله معروفة لأغلبية العراقيين، التاريخ يقول: أن قتلانا ما يزالون يضربون على الأبواب ويُذكروننا، بأن لن يكون للعراق بعد اليوم غير النظام الديموقراطي بكل ما يتضمنه من واجبات وحقوق،
منطقة محررة.. ديموقراطية بلا ديموقراطيين
نشر في: 24 مارس, 2010: 05:28 م