د. عقيل مهدي يوسفلم يعرف المسرح العربي، الا في حالات نادرة مثلما عرف مسرحنا في العراق في ستراتيجية التعامل مع المرأة الفنانة حين تكون الصبغة السياسية (الآيديولوجية) هي المتصدرة، وتتوارى الموهبة بإستحياء خلف كواليس الذات. لعبت الراحلة، زكية خليفة ، ادواراً حاسمة على مسارح الواقع العراقي،
وعلى الاخص في مدينة العمارة، التي ولدت فيها، حيث انخرطت في العمل الحزبي، وعانت من الملاحقة، والسجن وكانت ارادتها صلبة، ولم تستكن لروادع السلطات القمعية المتتابعة أو تثنيها من إعلان افكارها، ومعتقداتها جهاراً، وبوجه سجّانها نفسه، وهي تسخر منه حين يتهددها بأساليبه الوحشية أو تنتفض عليه، وتقوم بالاضراب مع السجينات الاخريات، تضامناً مع شقيقها أو رفيقها الرجل في السجون الاخرى، والمدن البعيدة عن سجن النساء، في بغداد، حيث يكون اعتقالها."ممثلة" ارادت ان تلعب هذا "الدور" ولم تكن على دراية بمناهج الفنون المسرحية، بل ارتقت خشبة المسرح بكيانها الحياتي نفسه، بلهجتها وسمتها وزيها، ولكن بوعيها الآيديولوجي مع عمق أممي، ويندغم مع هموم وطنية، ارادت تقديم مقترحاتها على الارض الطبقية، أو من خلال القيم الثقافية للبنية الفوقية، ولو من خلال دور ثانوي، أو حضور معنوي فوق الخشبة يخاطب شرائح من الناس وينشط فيهم العقل النقدي، او يحفز الفعالية الاجتماعية، للتصدي للجور، والاضطهاد والفقر، والامية وسواها من مثالب لا تليق بكينونة الانسان على العموم والفرد العراقي على وجه خاص. كنا نذهب لمشاهدة عروض فرقة المسرح الفني الحديث لأنها ابرز الفرق الاهلية نشاطاً وابداعا وتتوفر على ملاك محترف، وملتزم حيث يترأس الفرقة الفنان يوسف العاني الذي مهّد الدرب لزكية خليفة، الانسانة الريفية لكي تتحول الى ممثلة ملتزمة بالخطاب السياسي (اليساري) اولا، واخيرا. وغالبا ما كان الاستاذ يوسف العاني، يستثمر وجودها، لكي يحاسبها ، على تقصير مفترض او متفق عليه بينه وبينها، لكي يتعظ الفنانون الشباب من هذا الدرس، ويزداد التزامهم ويكرس سلوكهم الفني – المسرحي. وحين اجتمعنا في العرض، كانت تتحاور معي كثيراً، وتبدي افكاراً انسانية، وتفتح قلبها وكأنها تشعر بوجوب التحاور مع الشباب من اجل ان يزدادوا قناعة بشرعية مهنتهم، ووظيفتها التنويرية في المجتمع. وفي مسرحية (زيارة السيدة العجوز) من اخراج الاستاذ سامي عبد الحميد، وكنت من بين الممثلين والمشرفين على العرض بعد سفر الاستاذ سامي الى الاردن. جاءت بفرح غامر لتهنئ ملاك العمل وهي تعلن عن غبطتها ، بعودة فرقة المسرح الفني الحديث الى العمل ، بعد توقف دام أكثر مما يمكن تحمله. وكأنها لم تتغرب كل هاتيك السنين، او كأننا في حوار دائم لم ينقطع، اذ تستأنفه معي، من غير تكلف او تحضير! هذه الانسانة التي تتحدث، وتناقش في أدق خصائص الفكر السياسي وكأنها (بروفيسور) في العلوم السياسية، تبقي لصيقة انحدارها الاجتماعي الشعبي، وتلكن بلهجة عمارية صرفة، مما يجعلك تشعر بالفخار امام انموذج (ايقوني) متميز، لأمرأة عراقية باسلة. من كان يظن بأن المرأة العراقية، وهي في هذا السن المتقدم تضطر الى الهجرة في غربة قاهرة، وتبتعد عن الهور و"السجن" وذكرياته برغم مراراتها، الا انه يذكرها بصفحات نضالها من اجل سعادة الناس، وتقدمهم وحقوقهم المتساوية امام القانون، في المعتقد والعمل والسكن والتعليم، ودعتنا المناضلة ، الفنانة ، زكية خليفة، بضميرها الناصع، وامنياتها الوطنية، واحساسها بالمسؤولية تجاه الناس ولو بحضور فني يترجم الى لقطة في "مشهد" مسرحي، او تلفزيوني او "سينمائي". رحلت عنا، ولكنها باقية في ذاكرة مسرحنا العراقي العريق والملتزم.
زكية خليفة والمسرح السياسي
نشر في: 24 مارس, 2010: 06:10 م