TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > استاذي سارتر

استاذي سارتر

نشر في: 26 مارس, 2010: 04:26 م

بقلم: جيل دولوز أيّ حزن على أجيال بلا "معلّمين"فليس معلّمونا هم الأساتذة العموميون فحسب، على ما بنا من حاجة إلى أساتذة. إذ حين نبلغ سنّ الرجال، يكون معلّمونا أولئك الذين يفرضون علينا جدّة جذريّة، أولئك الذين يعرفون كيف يخترعون تقنية فنّية أو أدبيّة ويجدون طرق التفكير المناسبة لحداثتنا،
 نعني لصعوباتنا كما لحماساتنا الصاخبة. نحن نعلم أنّه ليس ثمّة سوى قيمة فنّية واحدة، بل حتى قيمة حقيقية واحدة: "اليد الأولى"، الجدّة الأصيلة لما نقول، "الموسيقى الصغيرة" التي بها نقول ذلك. إنّ سارتر إنّما كان ذلك بالنسبة لنا (بالنسبة إلى جيل العشرين من العمر عند التحرير). من، عندئذ، عرف كيف يقول شيئا جديدا، إن لم يكن سارتر ؟ من علّمنا طرقا جديدة في التفكير ؟ ومهما كانت لامعة وعميقة، فإنّ أعمال ميرلوبنتي قد كانت تحمل صبغة الأستاذ وتابعة لأعمال سارتر من أوجهة عدة. (قد كان سارتر يشبّه كيان الإنسان عن طيب خاطر باللاّوجود الخاص بـ"ثقب" في العالم: بحيرات صغيرة من العدم، كما يقول. في حين أنّ ميرلوبنتي إنّما يأخذها على أنّها طيّات، طيّات بسيطة وثنايا. بذلك كانت تتمايز وجوديّة صلبة وثاقبة عن وجوديّة أكثر مرونة وأكثر تحفّظا.) أمّا كامو، يا للحسرة ! فكان تارة نزوعا متكبّرا إلى الفضيلة، وتارة عبثا من الدرجة الثانية: كان كامو ينتسب إلى المفكّرين الملعونين، لكنّ كلّ فلسفته إنّما كانت تعود بنا إلى لالاند ومايرسون، إلى مؤلّفين كانوا بعدُ معروفين جيّدا لدى حاملي الباكلوريا. في حين أنّ ما كان يأتي من سارتر إنّما هو الموضوعات الجديدة، وشيء من الأسلوب الجديد، وطريقة خصومية وشرسة جديدة في طرح المشاكل. ففي خضمّ فوضى التحرير وآماله، اكتشفنا وأعدنا اكتشاف كلّ شيء:كافكا، الرواية الأمريكية، هوسرل وهيدغر، توضيح المواقف الذي لا ينتهي مع الماركسية، الاندفاع نحو رواية جديدة... لكنّ كلّ شيء مرّ عبر سارتر، ليس فقط لأنّه كان يملك، بصفة الفيلسوف، عبقرية الكلّ الجامع (la totalisation)، بل لأنّه كان يعرف كيف يخترع الجديد. إنّ العروض الأولى لمسرحية الذباب، وظهور الوجود والعدم، ومحاضرة الوجودية مذهب إنساني، إنّما كانت أحداثا كبرى: كنّا نتعلّم من بعد ليالي طويلة كيف هو التماهي بين التفكير والحرية.إنّ "المفكّرين الأحرار" (penseurs privés)، هم، بوجه ما، يعارضون "الأساتذة العموميين". حتى السوربون تحتاج إلى سوربون مضادّة، وإنّ الطلبة لا يستمعون جيّدا إلى أساتذتهم إلاّ حين يكون لهم أيضا معلّمون آخرون. لقد كفّ نيتشه في وقته عن أن يكون أستاذا من أجل أن يصبح مفكّرا حرّا : ذلك ما كانه سارتر أيضا، في سياق آخر، ومخرج آخر. وإنّ للمفكّرين الأحرار خاصيتين: نوع من التوحّد الذي يلازمهم في كلّ حال؛ ولكن أيضا شيءٌ من الاضطراب، شيءٌ من فوضى العالم حيث ينبجسون والذي ضمنه هم يتكلّمون. ولذلك هم لا يتكلّمون إلاّ باسمهم الخاص، دون أن "يمثّلوا" شيئا؛ وهم يستحثّون داخل العالم أشكالا من الحضور الخام، وقوى عارية ليست هي بدورها "قابلة للتمثيل". كان سارتر قد رسم بعدُ في ما هو الأدب ؟ المثال الأعلى للكاتب: " إنّ الكاتب سوف يستعيد العالم كما هو، نيئا تماما، عرقان تماما، نتنا تماما، يوميّا تماما، من أجل أن يقدّمه إلى حرّيات على أساس من الحرّية... إنّه لا يكفي أن نمنح الكاتب حرّيةَ أن يقول كلّ شيء ! فهو ينبغي أن يكتب لجمهور يملك حرّيةَ تغيير كلّ شيء، وهو ما يعني، علاوة على إزالة الطبقات، القضاء على كلّ دكتاتورية، والتجديد المستمرّ للأطر، والقلب المتواصل للنظام، ما إن يميل إلى التحجّر. وبكلمة واحدة، إنّ الأدب هو ، في ماهيته، الذاتيّة التي من شأن مجتمع في ثورة دائمة." إنّ سارتر، منذ البداية، إنّما تصوّر الكاتب في شكل إنسان مثل الآخرين، يتوجّه إلى الآخرين من وجهة نظر حرّيتهم فحسب. كانت كلّ فلسفته تنخرط في حركة تأمّلية لا تكفّ عن إنكار فكرة التمثيل، ونظام التمثيل نفسه: كانت الفلسفة تغيّر من موقعها، كانت تهجر دائرة الحكم (jugement)، من أجل أن تستقرّ في عالم أكثر ألوانا هو عالم "ما هو سابق على الحكم" و"ما هو سابق على التمثيل". إنّ سارتر قد رفض مؤخّرا جائزة نوبل. وتلك مداومة عمليّة على نفس الموقف، فزعٌ من فكرة أن يمثّل بالفعل شيئا ما، حتى ولو كان قيما روحية، أو كما يقول، من أن يكون تابعا للمؤسسة. <يحتاج المفكّر الحرّ إلى عالم ينطوي على حدّ أدنى من الفوضى، حتى وإن كان أملا ثوريّا، بذرة من ثورة دائمة. ثمّة، لدى سارتر، شيء مثل تعلّق خاص بالتحرير، بالآمال الخائبة لهذه اللحظة. وكان لابدّ من حرب الجزائر من أجل أن يعثر على شيء ما من النضال السياسي أو الاضطراب المحرِّر، وعندئذ، في أوضاع معقّدة، وتعقّدُها في كوننا على وجه الدقة لم نعد المقموعين، بل أولئك الذين يجب عليهم أن يرتدّوا ضدّ أنفسهم. آه أيها الشباب. لم يبق غير كوبا ورجال المقاومة (les maquis) الفينزويليين ! بيد أنّه ثمّة ما هو أكبر من وحدة المفكّر الحرّ، إنّها وحدة أولئك الذين يبحثون عن معلّم، الذين كانوا ير

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram