. محمد درويشاكاديمي ومترجم عراقيلابد من قراءة ثانية متأنية في مواقف سارتر السياسية، خاصة تلك المواقف التي اثارت قدراً هائلا من الجدال في اوساط المثقفين العرب في عقدي الخمسينيات والستينات من القرن العشرين، ذينك العقدين العجيبين من الزمن اللذين اختلطت فيهما السياسة بالادب وامتزجا امتزاجا عظيما حتي بات فيهما السياسي اديبا والاديب سياسيا اكثر من اي وقت مضي بفعل الاحداث الجسام التي مرت على امتنا العربية
دوانبعاث المد القومي العربي واصطفاف الجماهير العربية من المحيط الى الخليج وراء زعامة عبد الناصر التاريخية ولاسيما اثر اشتداد اوار الصراع العربي الصهيوني الذي اتضحت مواقف سارتر منه، وهو ما سنأتي على مراجعته في هذه الدراسة. اما مواقفه واتجاهه الفلسفي الوجودي فهو بحاجة كما نعتقد الى دراسة منفصلة وحسبنا ان نركز هنا على مواقفه السياسية التي كان لها اعظم الاثر في صفوف مثقفينا العرب في تلك الحقبة المهمة من تاريخ امتنا العربية.أولت مجلة (الاداب) و(دار الاداب) منذ نشأتهما في 1952 الاديب الفرنسي (جان بول سارتر) عناية كبيرة تجلت في ترجمة اهم مؤلفاته الى اللغة العربية ونشر دراسات مستفيضة عنه والحديث عن مواقفه المختلفة. وغني عن القول ان صاحب (الاداب) نفسه د. سهيل ادريس وزوجته اسهما بالقدر الاكبر في هذه الترجمة والتعريف، وسبب ذلك، كما يقول د. سهيل ادريس نفسه في افتتاحية العدد الصادر في ديسمبر 1964 من (الاداب) يتمثل بالايمان بان (سارتر) هو (اعظم المفكرين الاحرار في القرن العشرين وان دفاعه الصادق عن قضايا الحرية في العالم، ولاسيما قضية استقلال الجزائر، جدير به ان يفوز بكل حبنا واعجابنا، وانه لكسب لنا نحن العرب ان يتجند اكبر مفكر حر في عصرنا للدفاع عن قضيتنا في الجزائر، كما انه كسب للبشرية كلها ان يضع سارتر كل عبقريته واخلاصه في خدمة الحرية، والدفاع عن حقوق المضطهدين وفضح اسالىب الاستعمار، بشكليه القديم والجديد، وان مايزيد من اهمية سارتر في نظرنا هو ان مواقفه هذه صادرة عن نظام فلسفي متكامل استطاع ان يجعل منه واحدا من اكبر الفلاسفة المحدثين).ثم ينبه د. سهيل ادريس قاريء (الاداب) الى ان على قاريء سارتر (ان يأخذ اثاره ومؤلفاته كوحدة لاتنفصم عراها اذا شاء ان يفهم فلسفته واتجاهه. اما اذا جزأها ووقف عند هذه الاجزاء المتناثرة، فسيجد فيها كثيرا من المظاهر السلبية).غير ان د. سهيل ادريس اتخذ موقفاً مغايراً من سارتر بعد اقل من ستة اشهر عندما اشارت صحيفة اسرائيليه الى ان (دعوة وجهت الى سارتر لحضور مؤتمر الفلاسفة في (اسرائيل) في 4 نيسان 1965 وان من المنتظر ان يلبي سارتر الدعوة)، وارسل رسالة الى سارتر يذكر فيها انه اسهم اسهاماً كبيراً في التعريف به في العالم العربي بسبب مواقفه من قضية العرب في الجزائر ومساندته (لجميع القضايا الكبيرة العادلة ومنها قضايا كوبا والكونغو، وان جميع البلدان التي خضعت ولاتزال تخضع لنير الاستعمار والاستعمار الجديد تجد في كتاباتكم الادبية والفلسفية اصداء لامانيها القومية المشروعة).ثم ينتقل د. سهيل ادريس بعد ذلك موضحا في رسالته التي نشر نصها العربي في مجلة الاداب/ عدد ايار 1965 ، انه (كان يصعب علىنا ان لم نقل من المحال، ان نصدق النبأ الذي نشر في صحيفة اسرائيلية والذي يقول ان من المنتظر ان تحضر مؤتمر الفلاسفة الذي يعقد في اسرائيل يوم 4 نيسان القادم. ان من الممكن ان يكون هذا النبأ غير ذي اساس، وانه انما نشر لغايات دعائية. اما نحن العرب، وفينا اصدقاء لك وتلامذة ومعجبون فنتمني بكل صدق ان يكون الامر كذلك لاننا حريصون على الا يمس التقدير الذي يكنه العرب لسارتر اي مساس). ثم يوضح د. سهيل ادريس اكثر عندما يخاطب سارتر في الرسالة نفسها اذ يقول: (اسمح لي ياصديقي العزيز ان نلاحظ ان حضور هذا المؤتمر في اسرائيل ، في المكان الذي سينعقد فيه لايمكن ان ينفصل عن قرينة سياسية. لقد علمتنا انت نفسك في جميع ماكتبت ان سلوك كاتب مايلزمه ويجعله (في موقف) اكان واعيا لذلك ام لم يكن. وليس من الممكن الا تدرك ماتمثله اسرائيل في نظر العرب. اننا نعدها قوة اغتصاب وجسرا للاستعمار الغربي ولاسيما الاميركي . والشعب العربي مازال وسيظل في صراع مسلح مع اسرائيل حتي يعود مليون لاجيء فلسطيني الى وطنهم. فنحن اذا على حق في ان نجند كل شيء من اجل تحقيق هذا الامل. وانا شخصياً اعتقد ان هذه (الزيارة) يمكن ان تخلق اصداء مؤسفة في نفوس مئة مليون عربي يحبونك ويقدرونك ويكنون لك شعوراً عميقاً بالعرفان. وانتم تعرفون ان هذا الشرق العربي يواصل كفاحه من اجل استقلاله التام، ووحدته وسيادته الكاملة في ارضه، ويأمل المثقفون العرب ابداً ان يدعم اكبر مفكر في القرن العشرين كفاحهم هذا من اجل مستقبل افضل).غير ان هذه الرسالة وبسبب من تلاحق الاحداث في العالم العربي بعد عودة السيادة المصرية على خليج العقبة، جعلت سارتر يتمادي في تعاطفه مع الكيان الصهيوني مع صدور مايسمي (بيان المثقفين الفرنسيين) الذي اصدره في باريس عدد من المثقفين الفرنسيين يوم 28 مايس 1967 ووقعه سارتر وسيمون دو بوفوار وفيه تأييد كامل للدويلة الصهيونية ودفاع مستميت عنها وانحياز فاضح لجانبها واستنكار لما وصفوه بتهديد سلامتها من الدول العربية.هذا البيان دفع د. سهيل ادريس الى ارسال برقية عاجلة الى سارتر نشرتها الصحف اللبنانية الصادرة بال
جان بول سارتر وتمظهرات مواقفه السياسية المتناقضة
نشر في: 26 مارس, 2010: 04:28 م