د حسين الهنداوي التوجه المبكر في الثقافة العراقية للنصف الاول من القرن العشرين نحو الافكار الوجودية مثير وغير تقليدي بذاته.ولعل جاذبية تلك الافكار كمنت أساسا في المجالات التي تكشّف فيها ضعف المنظورات الشمولية من ماركسية وليبرالية وقومية ودينية في الاستجابة للحساسيات الجديدة في الادب والفن المتمحورة غالبا حول فكرة الحرية الفردية والمتمخضة كضرورة طبيعية عن تأزم بل انهيار نمط القيم القديم بفعل التبدلات الجذرية المفروضة كليا من خارج المجتمع نفسه.
ورغم ان امر هذه الجاذبية بدأ هامشيا ومقتصرا على نخبة صغيرة جدا من الادباء والفنانين الا ان تلك النخبة هي التي غدت مع مرور الزمن الوجه الأجمل والأخصب للابداع الفكري والأدبي والفني في العراق.rnفعلى العكس من تلك المنظورات التي طرحت نفسها كأطر ايديولوجية لتوجهات سياسية تخص جماعات محلية مختلفة، واسعة احيانا او منتظمة في هياكل وأحزاب، لم يكن الأمر كذلك مع الوجودية التي بدت كمبشر ضد كل اشكال التنظيم والهرميات الحزبية او الدوغمائية، الأمر الذي جعل بعض ممثلي تلك الايديولوجيات ينعت الادباء والفنانين الوجوديين او القريبين من الوجودية بالفوضويين او الذاتيين او سواها من التسميات المفعمة بشحنة خصومة او ريبة.لكن، وبينما كانت الافكار التحررية لا سيما الماركسية منها قوية الحضور في الاوساط السياسية والاجتماعية، كانت الوجودية في تلك الفترة، ومنذ سنوات عديدة، قد تحولت بسبب تمجيدها الفرد والحرية والتمرد الى حركة جذابة ومتميزة هي الاخرى في الاوساط الاكثر حيوية بين المبدعين العراقيين لجيل الاربعينات وبشكل اعمق ربما مما في لبنان ومصر ذاتها وذلك لأن العراق، المهيمن عليه من بريطانيا آنئذ والتائق إلى الحرية والاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، كان مرتعا لسلسلة من الانقلابات والازمات السياسية والحركات الاحتجاجية ضد الوصاية البريطانية بدءا من انقلاب بكر صدقي في 1936 ثم حركة مايس ١٩٤١ وانتهاء بوثبة كانون الثاني (يناير) 1948.فقد ظهرت السارترية هي الاخرى بمثابة الهوية التي يبحث عنها الشباب في فترة تميزت ببروز طلاب الجامعات والشباب عموما كما لو انهم محرك الثورات الاجتماعية وحركات التحرر الوطني من اجل الحرية والاستقلال والتقدم، بعد ان كانت أفكاره، موضوعة في سياقها المعرفي والسياسي، قد تركت تأثيراتها على قناعات الكثير من الادباء والفنانين في مناطق عديدة من العالم. فلقد نجح سارتر في جعل عوالم الكتابة والفكر والفن مسؤولة بشكل او آخر عن تغيير الحياة الواقعية ذاتها وفي تحريض الشاعر والفنان على الجرأة على القيم التقليدية واشهار اهمية تجربته الداخلية أينما وكيفما أمكن.يصف جبرا ابراهيم جبرا، في كتابه «الرحلة الثامنة» (بيروت 1967)، المناخ العام لتلك الفترة والذي نشأت فيه جماعة بغداد للفن الحديث، بأنه كان مناخا ملائما لتعميق الشعور الانساني بالحضارة ومن منطلقات فكرية معاصرة، لذا لم يكن عبثاً ان يسود الشعور بالفكر الانساني عبر الفلسفة الوجودية وبالشعور الاجتماعي عبر الفلسفة المادية الى الحد الذي يتحقق بشكل رؤية فنية ذات ارتباط بالتراث، ملخصا انطباعه عن المناخ الثقافي العام الذي تألفت فيه جماعة بغداد للفن الحديث بالعبارات التالية:«كان الميل الأشد يتجه نحو هجر الانطباعية التي يلتزمها معظم الرسامين من أجل شيء أعنف تعبيراً عن مضامين النفس، عن الغضب، عن التمرد. كانت الوجودية في تلك الآونة قد غزت أذهان الشعراء والادباء والفنانين في العراق بنظريات فيها كثير من الإبهام الفلسفي، ولكن فيها كثير من الحث على المخاطر والتفرد- وفي الوقت نفسه على الالتزام.أما اليساريون، وكانوا كثيرين، فكانوا يطالبون بانزال الفن الى الشارع والمقهى وبايصال التعبير الى الجماهير بالنطق عن حاجة الجماهير، وفي هذا الخضم من الرأي والانتاج تألفت جماعة بغداد لتحاول شيئاً أبعد من ذلك، لتحاول ايجاد اسلوب عراقي لا تأخذ من قوته نظريات التبسيط والقول المباشر». ونحن نذهب مع ما ذهب اليه يوسف الخال في كتابه «الحداثة في الشعر» من اعتبار «مفهوم الشعر قد تغير بعد الحرب العالمية الثانية التي غيرت علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الإنسان بالوجود». ينبغي التذكير هنا ان تأثير الوجودية لم يقتصر على بلند الحيدري كي نبحث في «تعاسة» طفولته عن اسباب لذاك التأثير تظل برأينا غير مؤكدة، انما شمل العديد سواه من مبدعي تلك الفترة الحيوية فكريا في تاريخ الشعر العراقي الجديد ومنهم أخوه صفاء الحيدري، الذي كان هو الآخر شاعرا وجوديا مجددا بدأ كتابة الشعر قبل بلند وله دواوين شعرية عديدة مطبوعة في العراق، اذ اشتهر بنزعة وجودية متمردة، ذهبت به مرة الى القيام بنصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة لغرض السكنى فيها مع بعض الادباء الوجوديين والمتمردين.وتفيد معلومات اخرى ان صفاء الحيدري وصديقه حسين مردان هاما بعدد من مجلة «الكاتب المصري» صدر في منتصف الاربعينيات لما فيه من مواضيع عن الوجودية وتبنياها وعدا نفسيهما وجوديين كل على طريقته.بلند الحيدري من جانبه انكب على تثقيف نفسه ثقافة شعرية خاصة، فأخذ يقرأ بنهم ما كانت تنشره المجلات والصحف اللبنانية، وبخاصة مجلة الأديب بين
سارتر.. والمثقفون العراقيون
نشر في: 26 مارس, 2010: 04:34 م