ترجمة وتعقيب/ د. حميد الهاشمي
في عدد يوم 18/11/2003، من مجلة كرستيان ساينس مونيتر، كتب عالم الاجتماع الأميركي الشهير اميتاي اتزيوني، مقالا عنوانه بـ(A Sociologist’s Iraqi Exit Strategy) وهو ما يمكن ترجمته بـ(ستراتيجية عالم اجتماع، للخروج من المأزق العراقي). ولأهمية المقالة باعتبارها تعبر عن قراءة ورؤية عالم اجتماع بارز تحظى كتاباته بمتابعة واسعة من صناع القرار والمختصين والقراء العاديين على السواء، ورغم الفارق الزمني الذي لم يغير كثيرا في الواقع العراقي، فإنني ارتأيت أن أقوم بترجمتها كاملة والتعليق عليها هنا.
نص المقالة:
إن المأزق الأمريكي في العراق يتطلب مساهمة مجموعة قليلة من الجنرالات وعدد أكبر من المتخصصين بعلم الاجتماع، الذين وظيفتهم فهم المجتمع وكيفية إعادة تنظيمه. ويمكن أن أكون واحدا منهم، وهذا ليس طلبا مني لوظيفة، بل إنه نداء إلى إتباع نهج واقعي لهندسة اجتماعية.
إن خطة ولسن الجديدة لتحويل العراق إلى دولة ديمقراطية، ونموذج يغير كل الشرق الأوسط، ويعيد قطعاتنا العسكرية إلى الوطن، قد أفشلت خيار العلوم الاجتماعية. عمليا، لقد فشلت كل المحاولات لتحويل مثل تلك البلدان التي يكون استعدادها اقل مقارنة بألمانيا واليابان. وهناك نماذج لديمقراطيات فاشلة أخرى مثل هاييتي وكمبوديا ونيكاراغوا وجنوب فيتنام.
إن السمة البارزة في العراق هي ارتفاع الوعي الوطني لدى أبنائه. فخلال الانتداب البريطاني للعراق (1920-1932) أحدث العراقيون عشرات آلاف الإصابات والحوادث بالقوات البريطانية قبل أن تنسحب. واليوم عمليا كل العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم سواء من الأصولية الدينية أو العلمانية المغلوب على أمرها، يريدون أن تفشل الولايات المتحدة في العراق. وبصرف النظر عن تبسيط، (شارع ماديسون PR) وإعلاناته التلفزيونية حول رفاهية حياة الأميركيين المسلمين، تحاول القوات الأمريكية هناك كسب قلوب وعقول العراقيين من خلال إعادة اعتمار واقعية للبلد. ويتضمن ذلك ترميم آلاف المباني المدرسية والعيادات والجسور ومحطات الطاقة والمنشآت النفطية وغيرها من الخدمات التي تدهورت منذ زمن نظام صدام حسين.
إن إصلاح النظام السياسي يتطلب تدريب رجال الشرطة والتزام المهنية في مجالات الخدمة المدنية وتدريب القضاة وضمان حرية الصحافة وغيرها من المهام. إن تكلفة هذا البرنامج الطموح تبلغ عنان السماء، ليس فقط بسبب تنوع مجالاته، إنما ما سببه من تربح غير مشروع على الصعيد المحلي والذي امتزج بأرباح الشركات الأمريكية. فتجد أن حكومة الولايات المتحدة الأميركية تسعر عربة نقل النفايات بـ50 ألف دولار، والتدريب لرجال الأعمال العراقيين بـ 10 آلاف دولار شهريا لكل شخص وهكذا.
الشيء الأكثر أهمية وبعيدا عن رضا العراقيين هو أن إعادة الإعمار قد خيبت آمالهم، حيث يشتكون بمرارة من نقص الوظائف ومشاكل الازدحام المروري وتردي الخدمات. وتخبرنا مجلة (SOC, 101)، بأنه كلما أعطي هؤلاء أكثر، كلما طلبوا أكثر على ما يبدو ليفرغوا جيوب الأمريكيين. وسيتنامى الامتعاض أكثر بعدم منحهم ما يعتقدون أنهم يستحقون طلبه. كما تخبرنا بان المرحلة الأولى من الديمقراطية التي تتطلب عقودا قد جلبت الانفجارات والسلوك العدواني وجرائم العنف وجرائم ذوي الياقات البيضاء والاغتصاب وهي في ازدياد في البلد. ومن المحتمل أن يتبع ذلك ازدياد انتشار مرض الايدز والتفكك الأسري وتشرد الأطفال وازدياد تعاطي المخدرات وإدمان الكحول.
يبدو أننا نتجه إلى غض الطرف عن هذه الخسائر في الجوانب الإنسانية والاجتماعية كثمن لدمقرطة البلد، وهو يشابه ما حصل في روسيا وألمانيا الشرقية التي حكمتها الشيوعية بعد النازية، حيث يتم تذكير العراقيين يوميا من قبل (الملالي)، بأن هذه الأمور المروعة مصدرة من الغرب. هذا ولا يمكن للناس هناك أن ينتظروا ليأتيهم (فلايديمير بوتين) ليعيد لهم الحد الأدنى من النظام الاجتماعي.
باختصار، فإن الانتظار من أجل أن يتعافى العراق في المجالين الاقتصادي والسياسي إلى درجة متقدمة، فإن ذلك يعد ضربا من العبث، خاصة وإن ليس هناك سبب لتصديق أن الرأي العام الأميركي يريد أن يستمر بدفع تكاليف احتلال طويل الأمد. على الطرف المقابل فإن ستراتيجية الخروج قد ظهرت بقوة في (تيار جاكسون الجديد)، لإعلان النصر والعودة إلى الوطن بصورة أكثر واقعية ولو قليلا. يناقش المسؤولون في واشنطن، فيما إذا كان من الأفضل إجراء انتخابات ومن ثم تشكيل حكومة، أم صياغة دستور وإقراره ومن ثم العمل وفقه.
لكن علم الاجتماع يظهر أن مثل هذه المناورات السياسية لن تقر النظام الاجتماعي. وفي الآونة الأخيرة، اقترح جوزيف نيا (Joseph Nye) عميد مدرسة كيندي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، أن تدعو إدارة الرئيس بوش في تموز/ يوليو القادم إلى انتخابات وأن تعيد القوات الأمريكية إلى أرض الوطن، فقط آملا ألا ينهار الوضع قبل تشرين ثاني/ نوفمبر القادم. ربما يستغرق ذلك طويلا، لكن ليس مدة أطول. إن الحرب الأهلية بين المكونات العرقية محتمل جدا أن تعقب ذلك، كما لا تمنع هذه الستراتيجية العراق الجديد من إعادة بناء برنامج أسلحة الدمار الشامل. إن هذا التراجع أقرب إلى سيناريو إسرائيل في جنوب لبنان وسيشجع الإرهابيين على استهداف القوات الأميركية في كل مكان تتواجد فيه. كل هذا يؤيد أجندة العمل وفق الحد الأدنى. وان الولايات المتحدة يجب أن تترك العملية الاقتصادية والسياسية للحكومة العراقية المنتخبة التي سوف تتم مساعدتها في المجالات التقنية والمالية.
مع ذلك، وقبل أن تسلم الولايات المتحدة مقاليد الأمور بيد الحكومة يجب المطالبة بالسماح بإقامة ثلاثة معسكرات مشابهة لغوانتانامو (Guantanamo) لتكون قواعد عسكرية في هذا البلد، واحدة في مناطق كردستان العراق، وقريبة من إيران، وأخرى بالقرب من البصرة مع إمكانية الوصول إلى الميناء والمطار هناك، والثالثة قاعدة جوية كبيرة في المنطقة المضطربة شمال غرب العراق. هذه القواعد المحصنة سوف تكون بمثابة حصون ضد الإرهاب. كما أنها يمكن أن تسهل جهود المفتشين الدوليين فيما إذا حاولت الحكومة الجديدة أن تطور أسلحة الدمار الشامل. كما يمكن الاعتماد عليها في تهدئة الأوضاع فيما لو حدثت حرب أهلية أو في حالة مغادرتها. كما يمكن لهذه القواعد أن تساعد في مشروع هيمنة الولايات المتحدة في هذه المنطقة وتبقي تحذيرا مستمرا للدولتين المجاورتين الداعمتين للإرهاب (سوريا وإيران).
هذا ما يتوجب على الولايات المتحدة فعله للخروج من الخطة العقيمة التي اتبعتها ولتحافظ على قوتها ومصداقيتها من الانهيار.
نهاية المقالة:
يتضح من المقالة أن رؤية اتزيوني تتمحور حول فهم أكبر للمجتمع العراقي، وذلك أكثر من يدركه هم علماء الاجتماع. وأن المهمة الأميركية كان من الأفضل أن تقتصر على الخبرات والدعم المالي والتقني واللوجستي. وحذّر من طبيعة العراقيين المقاومة للتدخل الأجنبي، مذكرا بما حدث للقوات البريطانية إبان الانتداب على العراق، وإنه قد فتح الباب لاحتمال وقوع حرب أهلية. في نفس الوقت افترض أن تكون لدى الحكومة الجديدة طموحات إحياء مشروع "أسلحة الدمار الشامل"، وان على الولايات المتحدة أن تتحسب لذلك بإقامة ثلاث قواعد عسكرية شبيهة بغوانتانيمو، من مهامها أيضا درء خطر الإرهاب وإبقاء التهديد مستمرا لكل من سوريا وإيران باعتبارهما "داعمتين للإرهاب".
إن قراءة اتزيوني علمية وقد تطابقت إلى حد كبير مع ما مر ويمر به العراق حتى الآن جراء سوء تعامل الإدارة الأميركية وقواتها مع الواقع العراقي. لكنه اخفق في مقارنته مع روسيا، واحتمالات تفشي الإدمان وانتشار الايدز والتفكك الأسري وما إلى ذلك، نتيجة لطبيعة المجتمع العراقي التي باتت أكثر محافظة من قبل، نتيجة ضغط الأصولية الدينية. كما إن احتمال وقوع الحرب الأهلية يتعارض مع إحياء مشروع أسلحة الدمار الشامل، نتيجة الانقسام والانشغال بالصراع الداخلي، لكن يبدو أنه أراد أن يعطي كلا الاحتمالين (الانقسام والوحدة).
بالنتيجة، فإن قراءات المتخصصين بالعلوم الاجتماعية تكون أكثر واقعية وعلمية من العسكريين والساسة، وهذا ما نظن أن على الساسة دائما الاستعانة بخبراء الاجتماع.
* عنوان المقال الأصلي: "A Sociologist’s Iraqi Exit Strategy" وقد نشر في مجلة (The Christian Science Monitor) بعدد 18//11/2003، ص 9.
** اميتاي اتزيوني (Amitai Etzioni)، أستاذ علم الاجتماع بجامعة جورج واشنطن، أميركي من أصل ألماني.
*** حميد الهاشمي، باحث في علم الاجتماع بالمركز الوطني للبحوث الاجتماعية، وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة العالمية بلندن.
جميع التعليقات 1
ضياء الحسيني
فعلا وصف جدا رائع للواقع العراقي شكرا لك يا اتزيوني على التحليل المفيد يجب على الساسه السياسين العراقيين اللجوء الى علماء الاجتماع وخصوصا في هذه المرحله الصعبه التي يمر بها العراق لكي يتمكنوا من ايقاف مؤسساته على الطريق الصحيح شكرا لك استاذ حميد الهاش