صالح سليمانحتى الالف كلمة لا تكفي ليوجز بها الضيف رحلته في هذه الدنيا المسحورة.. دنيا الصحافة فالذاكرة حين تتلقى لدعوة الزميل الكريم فؤاد مطر، لابد لها – وهي ذاكرة صحافية – ان تطمع بالف اخر من الكلمات لكن من يكابد الشوق ويعاني الصبابة ، يعرف لماذا هي الف كلمة لا اكثر لذلك سيكون الاختصار الشديد، كابحا لهدير هذه الذاكرة على امل ان ينالني مع كرم الضيافة ضوء اخضر المرور بعض كلمات قد يراها البعض نبشا لماضٍ مضى،
في حين انها فاتحة لحديث لايطيب من دونها، وهي جزء من تاريخ نحن امناء عليه كانت البداية مثل بدايات كل الزملاء، رغبة في الكتابة ، فاذا ما نجحت رسالة الى رئيس تحرير جريدة "العالم العربي" في بغداد تحمل عنوان "تعال معي.. الى سوق الشيوخ" فان الرغبة تمد طموحها الى مواضيع اخرى، واذا ما تورط احدهم بسرقة مقال منشور في جريدة سودانية بعنوان "لماذا ولمن يكتب الاديب" ونشره باسمه في "العالم العربي" واسهم الكتاب في تناول هذا الموضوع ، وكنت واحدا بينهم، فان النشوة لابد من ان تبلغ مداها في القلب الذي لم يدخل ربيعه العشرين بعد، في بداية الخمسينيات او قبلها بقليل ، ثم تتوالى الى مقالات اخرى، على درب الهواية او الغواية، بل مقابل حتى وقعت الواقعة! ذهب الملك فيصل الثاني الى لندن، ووصفت وكالة "رويترز" استقبال الملكة البريطانية له قائلة انها رفعت كأسها تحية له وعبث احد عمال المطبعة (من باب الوطنية) في حروف البرقية، فصدرت "العالم العربي" في اليوم التالي تحمل فضيحة لايسترها ستر، وكنت ذلك اليوم احمل مقالا جديدا للاستاذ لطفي بكر صدقي رئيس التحرير الذي كان يقف عند فتحة الزقاق المطل على شارع الرشيد وبانتظار المصحح الذي فاتت عليه هذه الغلطة المطبعية ليعاقبه ميدانيا وعندما رآني صرخ: تشتغل (مصحح)؟ وصرخت بصوت اعلى من صوته: -اشتغل! من هنا بدأنا، وبراتب شهري قدره ستة دنانير فقط لا غير يصرف اسبوعيا بواقع دينار ونصف الدينار..لكل اسبوع. لم اكتف بمهمة التصحيح الذي كان هو البداية التي تابعت فيها اساليب الصحافيين الذين سبقوني وتعلمت منهم، فكتبت من ثم بالسياسة، والفن، والقصة. كانت متعة الكتابة لا تفارقني، وهي ماتزال لا تفارقني حتى الكلمة الالف من هذه الرسالة كان العمل لذيذا مع الزملاء عبد القادر البراك وشاكر اسماعيل ومنير رزوق ، ولكل منهم حكايات لايتسع لها المجال هنا، شاكر اسماعيل غير عنوان صفحته الرياضية، فاصبح انتفاضة لا رياضية"، ومنير رزوق تنازل لي عن عمله عندما عرف انني عاطل فتبادلنا البطالة، والصديق عبد الرحمن فوزي كان رقيباً على الصحافة وكنا نسهر كل ليلة ، وعبد القادر البراك ومحيي الدين اسماعيل وبدر شاكر السياب ويوم صدرت لي مجموعة قصصية بعنوان "السجن الكبير" من دون ان تعرض على الرقابة جاء عبد الرحمن فوزي تلك الليلة، وما ان جلس حتى همس قائلاً: -قدمت كتابك اليوم الى المدعي العام لمحاكمتك ، اشرب كأسك وغادر بغداد! في اوائل الخمسينيات ، كنت اعمل موظفا في مديرية السكك الحديد، حين اغراني الزميل جوزيف ملكون، رئيس تحرير جريدة "الاخبار" بان اعمل معه، واتفقنا على كتابة تحقيقات صحفية براتب شهري قدره ثمانون دينارا وهو اعلى راتب في الصحافة حينذاك وقدمت استقالتي من الوظيفة، وصدرت "الاخبار" تحمل مانشيتا على ثمانية اعمدة: "صالح سلمان يكتب مئة ريبورتاج.. وريبورتاج".. وما ان بدأت حتى طلب مني رئيس التحرير ان اكتب تحقيقا ادركت انه موضوع اعلاني ، فرفضت وتركت العمل في "الاخبار" بعد ان فقدت وظيفتي الحكومية. لكن الايام ظلت ممتعة عملت في جريدة "الاوقات" البغدادية من دون علم رئيس تحريرها الذي كان يقضي اشهر الصيف في لبنان، وما ان عاد حتى اتصل مباشرة بالتحقيقات الجنائية يشكوني اليها ويبرئ نفسه من كل ما نشر في الجريدة خلال غيابه وتنقلت على مدى السنوات تلك للعمل في اغلب الصحف العراقية، عملت اربع عشرة سنة في التقاط الاخبار من الاذاعات مباشرة حيث لاوجود لاجهزة وكالات الانباء ولا لاجهزة التسجيل، كنت "اضبط" خطب الرئيس عبد الناصر على مدى ساعتين واكثر، وكان عامل المطبعة يسحب الاوراق من تحت يدي من دون "تبييضها" ولم يحدث ان فاتتني كلمة، او اخطأت في جملة. لذلك كنت "مطلوباً" لهذا العمل في الصحف الاخرى. في جريدة الاهالي عملت مع الاستاذ كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتابع الاخبار بدقة ويلتزم الامانة بنشرها، اذكر ذات ليلة اغراني احد الزملاء بالخروج مبكرا، اذ لايبدو ان هناك خبرا مهما ستأتي به الاذاعات وخرجنا وسهرنا، وعند عودتي الى البيت في محلة "الحيدرخانة" القيت بنفسي على السرير بعد ان خلعت كل ملابسي ولما كان جاري –على عادته – يرفع صوت المذياع الى كل مداه ، فقد سمعت من راديو دمشق في الثانية عشرة والربع خبر الحكم على الدكتور مصدق رئيس الوزراء السابق في ايران، الذي امم النفط الايراني، وكان هذا الامر اهم حدث يترقبه العالم باسره، فقفزت من السرير، وبعد دقائق وجدتني عاريا اركض في شارع الرشيد باتجاه مبنى جريدة الاهالي وكان البعض من المتسكعين في اخر ا
عامل في المطبعة تلاعب ببعض الحروف فسبب فضيحة مدوية للصحيفة
نشر في: 28 مارس, 2010: 04:39 م