أمضيت ليلة الانتخابات الامريكية في نيوهامبشير شمال نيويورك وشرق بوسطن على حدود كندا، وفيها قريتان هما أول مكان في أمريكا تفتح مراكز اقتراعه بحسب توقيت الساحل الشرقي، وفيها اكبر شريحة ناخبين مستقلين، مرة يصوتون للجمهوري وأخرى للديمقراطي، ولذلك فإن أوباما كان هنا ليل الأحد ورومني جاء ليل الاثنين ليتنافسا على نحو ٣٠٠ ألف صوت غير حزبي في بلد سكانه ٣٦٠ مليونا!
كان انصار رومني يتوافدون بالالاف على قاعة كبيرة قرب فندقنا، وشاهدناه عبر شاشة خارج البناية يصرخ: سنلتزم بالتغيير الحقيقي لا ذلك الذي يزعمه اوباما. وبقي الناس بعد انتهاء خطبته يرقصون حتى منتصف الليل حين بدأ التصويت، بينما كنت احاول استكشاف كورنيش مانشستر ونهرها الصغير محاولا فهم نظام المرور والتحديق في سيارات هادئة لا تضايق أحداً. انها تتوقف لتسمح لك بالمرور حتى لو تجاوزت على الإشارة الضوئية بينما يرسم وجه السائق او السائقة ابتسامة تتضمن العتب! وعلى ذكر السائقات فإن سيدات بعمر جدتي يعملن هنا كسائقات لحافلة النقل العمومي الضخمة أو لقطارات المترو، ويبرعن في ذلك ويثرن اهتمام القادمين من الشرق.
سيدات نيوهامبشير الولاية التي يقطنها مليون وربع المليون نسمة فقط وميزانيتها العامة ١١ مليار دولار، نجحن قبل ٤ اعوام في تحقيق اول اغلبية نسوية ساحقة في امريكا داخل مجلس شيوخ الولاية، حيث فزن بنحو ٣٠ مقعدا مقابل ١٢ للرجال.
عجائب هذه الولاية لا تنتهي وتؤكد لمستطلع مثلي حجم التعقيد والتنظيم الذي بلغه الغرب بعد ٢٠ قرنا على حريق روما. محدثنا كان عضو مجلس النواب في الولاية، الجمهوري جون بورت، وللحظة قلت له: من يضمن انك لا تحاول خداعي ومن سيصدق من العراقيين ما تقوله هنا. وبقيت أشاكسه حتى جاء نائب خصم من حزب أوباما وراح يؤيد إفادات خصمه ويسخر من فكرة أنني عاجز عن تصديق قواعد برلمان نيوهامبشير.
إنهم ينتخبون الحاكم فيقوم هو بتعيين وزراء للولاية. لكن الولاية المكونة من ٥ مدن تنتخب ٥ مستشارين لتقييد سلطة الحاكم. المستشارون لا يدلون باستشارة اختيارية بل يجب أن يوافقوا على اي عقد تتجاوز قيمته ١٠ آلاف دولار وعلى تعيين أي موظف في طاقم الحاكم. الناس هنا لا تنتهي مهمتها بانتخاب السلطان بل تنتخب أوصياء عليه يقوّمونه، كما ان كل جلسات الحكومة المحلية علنية وميكروفونات المسؤولين مربوطة بشبكة الانترنت ويمكن لكل مواطن الانصات للمناقشات عبر هاتفه او مذياع سيارته، فلا شيء يخص الشأن العام وتستحي منه الحكومة.
في اروقة مقر الحكومة والبرلمان "سيتي هول" يجري عرض تاريخ الولاية بطريقة فخمة، حتى انهم يحتفظون بأعلام وبيارق امريكية ممزقة من معارك الحرب الاهلية قبل ١٥٠ عاما. ايضا يحرصون على تعليق صور كل الحكام السابقين للولاية في غرفة الحاكم الحالي الذي لا توجد اي صورة له، اذ سيضعون له واحدة حين يغادر منصبه!
قواعد اللعبة تتعقد مع نموذج هامبشير في السياسة والإدارة، وها هي مسؤولة العلاقات تحدثنا كيف أن شعبها، الصغير "مليون وربع المليون نسمة فقط" يخشى ظهور جماعة تحتكر السلطة. الشعب لم يقنع بانتخاب خمسة مستشارين يقيدون سلطة حاكم الولاية، بل انتخب عن كل شارع تقريبا، عضوا في البرلمان المحلي. إن "مجلس محافظة نيوهامبشير" التي تظل بحجم النجف، فيه ٤٠٠ عضو منتخب! يا ويلي وكم تكلفكم مرتبات هؤلاء ولماذا هذا الإفراط في عدد نواب ولاية تظل ربع البصرة بنفوسها؟ يقول لك النائب الديمقراطي: لقد قمنا بضمان تمثيل الجميع ولا يوجد أي حي بلا تمثيل نيابي، اما الكلفة المادية فهي بسيطة إذ أن راتب النائب لا يتجاوز ١٠٠ دولار في السنة، انه مبلغ رمزي. عفوا سيادة النائب هل أنت جاد، هل تعيش بمئة دولار؟ يضحك ويقول: نعمل ٣ ايام في الاسبوع بدوام جزئي، ولدينا اعمالنا الاخرى. تمثيل الناس في البرلمان ليس مشروعا للاسترزاق، هنا تجلس عضو مجلس الشيوخ وهي سيدة اعمال ثرية، وهناك نائب يمتلك سلسلة بارات، وهذا صاحب مشاتل وذاك مهندس متقاعد.. الخ.
انني لا اكاد اصدق ما يجري. هل قام نفس الأمريكان باحتلالنا ام ان فريق بريمر جاء من كوكب آخر؟ إننا أمام مفاهيم مختلفة جدا عن تلك التي سادت في عهد الأمريكان بالعراق. والمفاجآت لا تنتهي. الجمهوري جون بورت صاحب ورشة لصناعة الإعلان الضوئي قرر قبل سنتين أن يكون عضوا في البرلمان، ولانه مغمور ولا احد يعرفه راح يطرق أبواب ٧٠٠ بيت ويشرح برنامجه، وواصل الوقوف ٤٠ يوما في التقاطعات الرئيسية مبشرا بخطته لتحسين الحياة. ولان الأمريكان يعجبهم الشخص المثابر فقد منحوه أصواتهم وحل الأول على ولايته.
يقول إن سنتين في البرلمان تكفيه ولن يترشح ثانية وسيعود لورشته لصناعة الإعلان الضوئي لان ورشته تضررت كثيرا بانشغاله بالرقابة والتشريع.
هذه الولاية الصغيرة هي سادس أغنى ولايات أمريكا فأهلها تجار شطار قريبون على ميناء بوسطن المهم ولديهم شاطئ سياحة صيفي هائل، لكن أثاث مكاتب المسؤولين متواضع داخل مبنى الحكومة بطرازه اليوناني وتاريخ تشييده قبل ١٣٠ عاما. وحين تذهب للتدخين قرب الباب الخارجي تكتشف ان المكتبة العامة افخم في عمرانها من مبنى الحكومة، انه الولع بالأسئلة والمعرفة والنقد المتواصل.
أخيرا قابلنا نائب وزير خارجية نيوهامبشير. ما هو دوركم يا سيد؟ يقول إن وزارة الخارجية في كل ولاية تتولى تنظيم العلاقة مع الولايات المجاورة، بل مع مدن كندا المجاورة التي تنشط التجارة البينية على حدودها. ألن تغضبوا واشنطن بإبرام صفقة مع كندا يا أهل نيوهامبشير؟ يضحك ويقول: أحيانا يغضبون لكن هذه قواعد اللعبة في امريكا التي لا تمتلك من التاريخ سوى ٢٠٠ عام لكنها أقنعت روح التاريخ الهيغلية بأن تبيعها خلاصة درس انساني تغيبنا عنه إلى الأبد.
كيف اصدق: راتب البرلماني ١٠٠ دولار!
[post-views]
نشر في: 6 نوفمبر, 2012: 08:00 م