TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > خارج العاصمة :من أحلام باصورا

خارج العاصمة :من أحلام باصورا

نشر في: 29 مارس, 2010: 06:45 م

محمد خضير 1. في الحمّامجمعتُ عائلتي في غرفة بدار كبيرة، وخرجتُ لشأن عاجل. طال البلى الدار، وزحف الخراب على حجراتها، وكانت حجرات الدار طولية الشكل بُنيت على طراز خانات السفر أو اصطبلات الدواب. لا تبدو الدار من الخارج كما تبدو من بهوها الداخلي الذي انتظمت الحجرات حوله.
 كانت واحدة من الدور المتشابهة ذات الواجهات الحجرية، والأبواب المرتفعة، والشرفات المزججة، وعندما عدتُ لألتحق بعائلتي تاه بصري وضلّت خطوتي الواجهة، فلم أهتد إلى الدار التي أنزلتها فيها. خِلتُ الدار التي دخلتُها خاوية من ساكنيها، وكنت أفتح أبواب الحجرات وأذرع طولها حتى أنتهي إلى قعرها الذي اقتُطِعتْ منه مساحة لبناء حمّام ومخزن متلاصقين. فتحتُ حماماً فوجدتُ فيه جمعاً من النسوان المسنّات وبضعة شبّان مع زوجاتهم. خالجني ظنّ بأن نزلاء الدار تركوا سكنى الغرف وتجمعوا في الحمّامات الملحقة بها. هممتُ بإعادة البحث والصعود من أحد السلالم الخلفية إلى سطح الدار (ولقد رسمتُ في ذهني مخابئ على السطح مملوءة بالقطن). لكنني نكصتُ وعدتُ إلى البهو عبر ممرات الحجرات الصامتة.الجدران المتهتكة تنظر إليّ بسخرية، والأبواب المفتوحة تغريني بالدخول والاستطلاع. الحجرات متساوية في الطول وارتفاع السقف وبلاط الأرضية، نفذتُ إلى حجرة واتجهتُ إلى حمّامها، فوجدتُ جمع النسوان والشبّان لم ينقص ولم يتغير، وفي يد كل فرد ملفّ سُجِّل عليه الاسم ونوع المعاملة وتاريخ الطلب وعنوان الدار. لم أتردد لحظة فخلعتُ ملابسي ووقفتُ تحت دشّ الاستحمام. انتحى الجمعُ وأفسح لي وسط الحمّام كي أغتسل، لكن فانلتي علقت بكتفي. خفّتْ امرأة مسنّة وانتزعت دبوساً شكَّ الفانلة بلحم كتفي، وتهيأ إليّ أني أألفُ صوتها المكتوم وراء عباءتها السوداء. قلتُ: "عمتي؟"  قالت: "نعم. مَن غرس الدبوس في كتفك؟ يا للظلم!". رحلتْ عمتي عن دنيانا بعد طول عمر على فراش خاطته بنفسها، وكانت تعاونها في عملها (خياطة اللحف والمخدّات وتحشيتها بالقطن) نسوة المحلة وجاراتها. تأملتُ الدبوس الذي تناولته من يد عمتي، فوجدته مشابهاً لدبوس رأيته في صغري في ورشة القطن على سطح دارنا. كان رأس الدبوس مصنوعاً من شذرة زرقاء نجمية الشكل. قلتُ لعمتي: "آه! هذا دبوسك المفقود في كومة القطن". تراجعت عمتي إلى قعر الحمّام، وحجبتها العباءات، لكني ضحكتُ وفتحت الصنبور فانصبّ الماء ثجاجاً من ثقوب الدشّ وسال على جسدي و بلل سروالي الطويل الذي لم أكن قد تجردتُ منه. ضجّت النسوة بالتهكم على الحال العام في الحمّام، وسادهنَّ مرح وفارقهنّ حذرهنّ وخفرهنّ، واهتجنَ لهياجي، وأعجبهنّ منظر اغتسالي أمام نواظرهنّ. سمعتُ واحدة تقول: "تمتعْ بسباحتك، لمَ العجلة؟ يمكننا ان ننتظر إنجاز معاملاتنا وتنفيذ طلباتنا. سنحتمل هذا الجو الخانق في الحمّام".rn2. سَــفَرrnأودعنا حقائبنا عربة القطار المتوقف في المحطة، وانتظرنا في الطوار المكتظ بحشود المسافرين. وفيما نحن ندردش ونهذرم ونزن كلامنا على علاته ونرسله بهفواته، تحرك القطار وئيداً، ثم مسرعاً، دون أن نلحق بعرباته. اكتشفتُ أن حقيبتي الصغيرة ذات العلاقة الجلدية، قد استقرت فوق سقف إحدى العربات، مع حقائب المسافرين الذين لم تتسع الرفوف لحمل أمتعتهم. تعقبنا القطار مهرولين، عبر الشوارع المتقاطعة مع سكة القطار، وهتفنا مستصرخين شرطة المرور وسواق السيارات المتوقفة أمام الحاجز الذي يفصلها عن السكة، فلم نلق منجداً ولا معيناً لورطتنا. ابتعد القطار وخلّف الحشود الراكضة وراء دخانه وقعقعاته، وعدنا للمحطة التي لم يتبق فيها سوى عربات الحمولة القديمة، المزاحة الأبواب على الجانبين. كان عدد المسافرين المخدوعين ضئيلاً، تشاوروا فيما بينهم، ثم ارتقوا عربات الحمولة. وهنا كانت البلوى على أشدها، فلم تسر العربات إلا كسير سلاحف أعجزها العمر الطويل، واعترض حركتها تطفّل الإنسان الغرير، ولم تتقدم خطوة إلى الأمام. رمينا أنفسنا من جوانب عربات الحمولة، وخبطنا في مستودع السكك الحديدية المترامي الأرجاء، بين ورش الصيانة ومخازن المواد المستهلكة وملاجئ القاطرات العاطلة، نهاراً كاملاً، حتى زاولنا الأمل باللحاق بقطارنا. لمنا أنفسنا لأننا وثقنا بسفر آمن ورحلة ليلية نواصل خلالها حديثنا المبهرج بنوتاتٍ عِذاب. ليس الأمر كما ظننا وأحببنا، فالسفر إلى أي مكان، داخل المنطقة المحصورة بين السكك المتقاطعة، أو خارج المستودع الصدئ، يقتضي صرف العمر بأكمله في استبدال العربات واسـتهلاك الأحاديث، وخبط الأرض خبط عشـواء. وما دام هدفنا من السفر مواصلة الحديث، واستجلاب الحظّ السيئ على أنفسنا، فقد اختططنا سبيلاً عجيباً لمواصلة سفرنا. وجدنا في جانب السوق عدداً من عربات الدفع تنتظم في صفوف متوالية وتنتظر من يثب إلى حوضها المستطيل ويتمدد على طوله بين أضلاعها الخشبية. وثب عشرة مسافرين إلى عربة وانحشروا متمددين، واحتضنت عربة مجاورة مثل عددهم، حتى اكتمل قطار العربات بالراكبين المحشورين. إلا أن أصحاب العربات تريثوا حتى يكتمل العدد المطلوب ويباشروا عملهم في دفع المسافرين الأغراء، بينما وجد هؤلاء فرصة التريث، أحدهم بجوار الآخر، وعربة ل

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram