TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > اوراق :الاستجابة إلى الأشياء

اوراق :الاستجابة إلى الأشياء

نشر في: 30 مارس, 2010: 06:21 م

محمود عبد الوهاب أفترض ، هنا ، أني أحاول فهم التباين في قراءة العلامات، بين علامة استجابة الرائي إلى الأشياء المنظورة ،وعلامة قراءة النصوص ، مع الإقرار بأن الاستجابة إلى الأشياء وقراءة النصوص ينتسبان كلاهما إلى حقل معرفي واحد ، هو القراءة والتلقي أو القراءة والتأويل . وعلى ما هو متداول في تحديد مفهوم العلامة بأنها " شيء يقوم مقام شيء آخر " ،
 ومع صواب هذا التعريف للعلامة، فإن العلامات تأتي متفارقة في إشاراتها وطبيعتها ، فعلامة " الاستجابة إلى الأشياء  " تكمن في  " المكانية " مثل منزل مرئي أو شجرة أو سياج ، ما يستنهض مستودع الرائي وخبرته ، ويستدعي ماضي الذات الرائية ومكنوناتها في حوار مكتوم حاضر بالاستذكار ، في حين تكون علامة قراءة النصوص هي " الكلمة في سياقها " حافزاً إلى القراءة والتأويل . اختلاف العلامتين  ، في الاستجابة والقراءة  ، يلغي أحاديتهما في الدلالة ، كما يلغي تعادلهما في ما تشيران إليه أيضاً . الاختلاف في نوع العلامة يرتبط أيضاً بقوة إثارتها للرائي أو القارئ وتحفيزها لهما ، فشدة العلامة ووهنها يحددان فاعلية الاستجابة إلى الشيء ، وفاعلية التلقي في القراءة . صحيح أن لثراء المتلقي في خبرته أو فقرها دوراً في الاستجابة إلى الشيء وإلى قراءة النصوص ، غير أن للعلامة / المثير دوراً إضافياً للتحفيز ، أضف أيضاً أن الاستجابة إلى الأشياء هي قراءة حرّة وذاتية ، من دون سطوة عليا خارج ذات المستجيب ، على غير ما هي عليه سلطة الكاتب في تقنيـن السنن والقرائن في نصوصه ، فقارئ النـص مهما بالغنا في دوره التأويـلي لا يصح له أن يلغي قصد المؤلف كلياً، مهما كانت خصوصية العلامة في النص المقروء وقدرتها على فاعلية التأويل ، ومن هنا ، تكون قراءة النصوص مقيّدة ، في حين تكون الاستجابة إلى الأشياء حرّة وذاتية كلياً .  كتاب " جماليات المكان " لفيلسوف التأمل الجمالي "باشلار" هو كتاب نوعي في دراسة المكان، متخذاً من انطولوجيا المكان ، عنصر استجابة إلى الأشياء في ضوء البحث الظاهراتي وارتباطه بالصور الشعرية والخيال ، " فالأشياء تتحدث إلينا ، وإننا إذا أصغينا إليها بجدٍ فإننا نقيم تواصلاً معها " . وفي المعنى نفسه، يؤكد باشلار " أن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لايمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً ". يستعرض باشلار في كتابه، الاستجابة إلى جماليات البيت ، الحجرات السريّة ، بيوت الأشياء : الأدراج والصناديق والأعشاش والقواقع . إن الاستجابة إلى الأشياء تمنح الواقع إضافات ملأى بالثراء عبر الاسترجاع والخيال ، كُتُبُ باشلار بعد جماليات المكان، بحث ظاهراتي عن الماء والنار والأحلام والهواء والاسترخاء والأرض وتهويمات الإرادة والأرض وحلم الراحة ، كلّ هذه الكتب تنغرس جذورها في تراب الحياة اليومية ، وذات صلة حميمة بأشياء الطبيعة والاستجابة إليها .في وارشو زرتُ بيت " مدام كوري " ، البولونية الأصل، الذي أُتخِذ متحفاً يضمّ أدواتها وحاجاتها ورسائلها إلى زوجها الفرنسي " بيير كوري " ، تلبسّني المكان ، كأنني أعيش في الزمن الذي عاشت فيه مدام كوري،  رسائلها أمامي مطوية  في خزانة زجاج ،  أحدّق إليها وكأنني أسترجع الزمن الذي كتبت فيه مدام كوري تلك الرسائل ، بل كنت أحسّ بلمسات أصابعها على الرسائل ، كانت استجابتي إلى تلك الأشياء صوراً متتالية باستدعاء حرّ وابتداع أخيلة باهرة بانسجام تام مع لاعقلانية تلك الخيالات . في وارشو أيضاً ، وفي إحدى ضواحيها زرت بيت الموسيقار الشهير " شوبان " ، كانت رائحة جو حجرته تعيد إليّ الزمن الذي عاشه شوبان . صور شوبان معلّقة على الجدار ، صبياً ، شاباً ، ورجلاً مكتملاً . في زاوية من حجرته ، كان كهلٌ بدين ملتحٍ ورديّ الوجه، يضرب على بيانو شوبان نفسه . في أحلام يقظتي ، وفي استجابتي إلى هذا الجو ، كنت أرى أن تلك الحجرة هي المكان الوحيد ، وخارجها سديم ممتدّ لا نهائي . ما زلتُ في الاستجابة إلى الأشياء أيضاً، مرة ثالثة في وارشو، في ضاحية منها ، زرتُ معتقلاً نازيّاًُ ، حاولتْ إدارته الاحتفاظ بكل ما فيه كما هو كائن في ذلك الزمن . أفرشة المعتقلين على الأرض تمتد كما لو كان جسد المعتقَل راقداً بطوله الآن ، الغطاءات ملمومة تحت قدميه ، نعلاه إلى جانبه ، اسمه ملصق في القائمة على الجدار ، كان أحدهم مصرياً كما أتذكر ، المكان يرهب زائريه ، كان المكان معادياً وخصماً،  كلّ ما يحيط بي يبعث على الاستيحاش والفرار من المكان .وما زلت في الاستجابة إلى الأشياء .في تشيكوسلوفاكيا ، وعلى مبعدة من براغ ، تقع كارلو فيفاري ، وهي ضاحية صغيرة على جانب من ضفاف نهر يترقرق ماؤه دائماً ، يمتد على جانبيه جسر نحيل أبيض كأنه صنع من عاج ، قبل أن أعبره ، ومن بعيد ، تأملت كارلو فيفاري ، مدينة المهرجانات والمصحّ الذي يقصده المرضى ، تأملت المكان ، كانت كارلو فيفاري تخلع ألوانها كلّ لحظة، والجسر العاجي يلتمع في الضوء الشحيح الباهت من الشمس ، فجأة انطلقتْ من روح المكان ، ولا أدري كيف ، صورة كارلو فيفاري  كأنها بطاقة تهنئة ، أنيق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram