سعد محمد رحيماتسع مفهوم الأمن القومي، في عالمنا المعاصر، ليشمل جوانب الحياة كافة بدءاً من توفير الطعام لكل فرد في المجتمع وحتى تحصين العقل ضد الأفكار الظلامية والشريرة. ولم تعد وظيفة الحفاظ على الأمن القومي مقتصرة على أجهزة الجيش والشرطة والمخابرات،
بل أصبحت مسؤولية جهات عديدة (حكومية وغير حكومية)، لا بد من أن تتضافر جهودها لضمان استقرار حقيقي ودائم في أي بلد. وقد لمسنا حقاً، في تجربتنا السياسية الحالية، كيف أن قناعات وأفكاراً معينة يمكن أن تملأ نفس امرئ ما بالكراهية وتقوده إلى الإرهاب والتخريب والقتل، وكيف أن قناعات وأفكاراً أخرى يمكنها أن تجعل من إنسان آخر محباً ومتسامحاً وبانياً. وفي المرحلة السابقة نجد أن هذه الحقيقة الساطعة والخطيرة لم تولها النخب والقوى والأحزاب السياسية العراقية، سواء الحاكمة منها أو الموالية أو المعارضة، القدر الكافي من الاهتمام. وبقيت الثقافة غائبة أو في أحسن الأحوال قابعة في المرتبة الأخيرة من أولويات الحكومة والأحزاب. وقد شهدنا أياماً دامية أبطالها قتلة تشربوا بأفكار ومعتقدات خاطئة حولتهم إلى وحوش آدمية. وما زال وضعنا الأمني هشاً، على الرغم من مليارات الدولارات (وهي ضرورية ومهمة) التي صُرفت لتوسيع قدرات المؤسسات الأمنية. لكن الأموال المخصصة للمؤسسات الثقافية كانت في غاية الضآلة. ولم تستطع أن تطوّر ولو بشكل نسبي البنية التحتية للثقافة، أو أن تدعم الحياة الثقافية بصورة مؤثرة. وبقيت الأنشطة الثقافية محدودة ومقتصرة في الغالب على جهود أشخاص مؤمنين بدور الثقافة في حياتنا الجديدة. أو بعض منظمات المجتمع المدني التي لا تمتلك الإمكانات المالية الكافية لتفعيل أنشطتها. تتفق معظم نخبنا الثقافية والسياسية على أن الهدف الوطني الأول والأساس في عراق اليوم هو بناء دولة قوية ذات سيادة بأسس ومقومات ومؤسسات وأطر قانونية حديثة. وعملية البناء هذه تفرض خوض صراعات صعبة وقاسية على جبهات عديدة. وشخصياً أعتقد أن حسم الصراع على الجبهة الثقافية هو المقدمة المنطقية لحسم الصراع على الجبهات الأخرى. وما لم نخلق المجتمع القائم على مبدأ المواطنة والاختيار الحر والسلم الأهلي، والإنسان الديمقراطي المؤمن بالحوار واحترام الرأي الآخر، والسياسي الذي يحترم ما تتمخض عنه صناديق الاقتراع فضلاً عن التداول السلمي للسلطة، سيكون الكلام عن الديمقراطية بلا معنى. ليس مهماً أسماء الأشخاص الذين سيشغلون المناصب الوزارية، وليس مهماً اسم من سيرأس الحكومة المقبلة، والتي ستنبثق بعد مخاض عسير وبعد مساومات واستقطابات معقدة كما هو متوقع، لكن المهم هو سياسة هذه الحكومة وأولوياتها. وأرى، في سياق ما جرى ذكره في هذا المقال، أن من ضمن هذه الأولويات لابد من أن تكون الثقافة، وتحديداً التنمية الثقافية وبناء قاعدة تحتية عصرية للثقافة (قاعات ومسارح ومدن لصناعة السينما والدراما التلفزيونية، وقاعات عرض سينمائية، ومدينة إعلامية، ودور نشر وتوزيع للكتاب، ومتاحف وكاليريهات، ومجمعات ثقافية في كل مدينة، الخ) وإعداد برنامج واضح بهذا الصدد وبتمويل مناسب، لتعود بغداد، مرة أخرى، واحدة من عواصم الثقافة والتنوير الحضاري في المنطقة والعالم، ولتحصل كل محافظة عراقية على حصتها من تلك التنمية وذلك البناء، فأمننا القومي سيبقى مهدداً ومثلوماً ما لم نعزّزه بثقافة الحرية والعدل والسلم والتسامح ونبذ العنف والإرهاب.
وقفة :الثقافة وأمننا القومي
نشر في: 31 مارس, 2010: 04:55 م