صـــلاح نيـــازي *وُلِدَ محمود البريكان عام 1931 بمدينة الزبير لأبوينْ نجدييْن. كان والده تاجرَ أقمشة، ومعروفاً بثرائه. امتلك بيتيْن فخميْن واحداً بالبصرة وآخر بالزبير. لمحمود ستة أخوة، وترتيبه الثاني بينهم، بعد الأخت الكبرى خاتون، وكانت أوّل معلمة زبيرية بالزبير.
أُعْجِب محمود في صباه، بجدّه لأمّه، واسمه «أحمد الخال». كانت له مكتبة بيتية كبيرة تضم بالإضافة إلى المراجع، المجلاّت والدوريّات. إلى ذلك كان عضواً في مكتبة الزبير الأهلية. تعرّف محمود في الغالب، أوّل ما تعرّف، على الكتاب عن طريق جدّه. طالما تردّد على هذه المكتبة، وطالما استشهد بأقوال جدّه.لا نعرف إلاّ النزْر القليل عن سنوات دراسة محمود بالبصرة، ما عدا ما ذكره محمود عبد الوهاب عنه، يوم كانا في الصفّ الثاني المتوسط. قال: انتزع المدرّس عن قصدٍ مسبق، دفتراً بغلاف أنيق من بين مجموعة دفاتر الإنشاء التي بين يديه، ونادى:- محمود داود البريكان«نهض من مقعده في الزاوية اليسرى من الصفّ، طالب معتدل القامة، يتدثر بمعطفٍ خفيف. مشى نحو المدرس إزاء السبورة. ناوله المدرّس الدفتر، وطلب منه أن يقرأ الإنشاء الذي كتبه. فجأة أصبح الصفّ مكاناً آخر، وارتعشت في وجوهنا كلماتُ محمود وصورُهُ وجملهُ كأنها تتواثب تحت جلودنا…»قد نقرأ فيما ذُكِر أعلاه نبوغاً صغيراً مبكراً، ولكنْ مما يلفت النظر، ما ورد في وصف دفتر الإنشاء بأنّه ذو «غلاف أنيق». هل كان البريكان يهتمّ بالشكل اهتمامه بالمضمون وربّما أكثر؟ سنرى ذلك فيما بعد. ما بين عام 1950-1951، أُصيبت تجارة الوالد بنكسة. هل لهذه الحادثة أثرٌ في شعره؟هل كانت منعطفاً نفسيّاً في حياته، بحيث جعلته ينكبّ على الكتاب؟ ما علاقة الابن بالأب؟ هل كان الأب ذا سطوة مستبدة داخل البيت، بحيث أصبح القصر - على فخامته- سجناً من نوعٍ ما؟ ولماذا ألحّ البريكان على تصوير السجناء، وهو لم يدخلْ سجناً؟ يقول رشيد ياسين:»شغلتْ مسألةُ السجن، والأهوال التي يلاقيها المسجونون فكرَ البريكان إلى الحدّ الذي جعله يعود إليها ليعالجها في شعره مرّةً بعد مرّةً حتّى بدا وكأنّ الأمر من الاستحواذ المضني. ومَنْ يقرأْ قصائد البريكان حول هذا الموضوع والمنولوجات الدرامية الفريدة التي كتبها على ألسنة بعض السجناء يصعبْ عليه أنْ يُصدّق أنّ هذا الشاعر لم يدخل السجن، وأنّ هذا الوصفَ الدقيقَ الموجع لمعاناة السجين وأحاسيسه وأفكاره، إنّما هو نتاجُ قدرةٍ فائقة على استبطان مشاعرالآخرين وتمثّلها…» للبريكان، لا شكّ، «قدرة فائقة» على استبطان المخلوقات الحيّة، وقد تطوّرت في سنوات النضج الثقافي، إلى استبطان الجمادات. لكنْ هل كان البريكان يصوّر سجناً وسجناء، أم بيئة مغلقة، وحصاراً نفسياً، وإحباطاً؟ المعروف أنّ البريكان درس القانون في كلية الحقوق، لمدّة سنتيْن، على غير رغبة منه. انصبّ همّه على دراسة الفلسفة، ولكنّه أذعن إلى مشيئة والده، في البداية، ثمّ ترك الدراسة. يبدو أنّ كشف علاقة محمود بأبيه ضرورية في أية دراسة أكاديمية، لأنها تلقي ضوءاً جديداً على معظم المفهومات الغامضة التي تشيع في قصائده المهمّة. قبل الانتقال إلى مرحلة تالية، ينبغي ذكر أمر يبدو ذا أهميّة خاصّة. فقد كان لمحمود مكتب فخم نسبياً ومنعزل داخل البيت. في هذا المكتب، عُدّة كاملة من أدوات الخطّ والرسم. كان محمود خطّاطاً ورسّاماً. نما إلى علمي، إنّه كان ينسخ من كبار الخطّاطين، ويقلّد أو يعيد رسمَ أشهر اللوحات العالميّة الأجنبيّة. قيل لي كذلك، إنه في هذا المكتب كان ينعزل عن ضوضاء أخوته الصغار في الطابق الأسفل. هل كان المكتب يا تُرى صومعة تعلّم فيها محمود الجَلَد والتدرّب على الاتقان؟ هل تعلّم فيه الصمت الخلاّق وما أكثره في شعره. ربما هو الشاعر العراقي الوحيد الذي جعل مادّة الصمت لغة أساسيّة في القصيدة. هل لهذا السبب كان الصخب في شعره لا يعني الضجيج بقدر ما يعني فوضى ناشزة تقطع الانسجام؟ لكن ما ثقافة البريكان؟ربّما لم يذكرْ أحدٌ من الذين اعتنوا بالبريكان وشعره، شيئاً عن الكتب الأدبية العربية التي كان مولعاً بها، كما لم يسألْه أحد من الذين أجروا معه مقابلات عن ذلك. كلّ ما أخبرونا به بأنّه كان مهتمّاً بالفلسفة، وبالموسيقى الكلاسيكية، وكان معجباً أشدّ الإعجاب بالشاعر الهندي طاغور، الذي يقول عنه : «شاعر حقيقيّ عميق الروح والذين يظنّون أنّه مجرّد وصّاف ينظرون إلى صوره الظاهرة ولا ينفذون إلى روحه». ومن الشعراء الذين أعجب البريكان بهم: «ريلكه يتميّز بتعبيره عن قلق الروح، لوركا لشعره نكهة خاصّة، وطريقته في استعمال الصور بديعة. تي. أسْ. إليوت شاعر يعي موقفه، وفي النماذج الجيّدة من شعره فنّ خاصّ. ومسرحيّته الشعريّة: «مقتل في الكاتدرائيّة» عمل فريد في ميدان صعب للغاية. بابلو نيرودا وناظم حكمت في أفضل حالاتهما يخلقان شعراًّ له أبعاده على بساطته الظاهريّة (وإن كانا في بعض حالاتهما يجنحان إلى النثريّة)، وهناك آخرون. الشاعر الاسباني خ
محمود البريكان محاولة أولية للتعرّف عليه
نشر في: 31 مارس, 2010: 05:01 م