TOP

جريدة المدى > غير مصنف > احتجب البريكان... فهل يظل شعره محتجباً بعده؟

احتجب البريكان... فهل يظل شعره محتجباً بعده؟

نشر في: 31 مارس, 2010: 05:04 م

عبد الزهرة زكيليس ثمة ما هو أصعب وأكثر مدعاة للألم من ان يفكر المرء في ان القدر تضامن مع محمود البريكان ليظلَّ شعره، وكما شاء هو في حياته، محتجباً عن الظهور وعن التفاعل مع العالم الذي ظل البريكان نفسه يحتجب عنه من خلال الشعر، والشعر وحده.
نتحدث هنا عن الشعر والشاعر والاحتجاب. فيتداخل الثلاثة في كينونة غريبة ونادرة الحدوث في التاريخ، تاريخ الإنسان وتاريخ الشعر على حد سواء.. الشاعر يحتجب في الشعر عن العالم، والشعر يحتجب بإرادة الشاعر في حياته وبإرادة قاتله بعد موته، حتى اننا لم نعد ندرك من الذي استلب ومن الذي أعطى؟ هل استلب القاتل إرادة الشاعر في الحياة؟ ام ان الشاعر أودع في قبضة قاتله إرادته الحقيقية باحتجاب شعره عن العالم.انها تجربة فريدة في التاريخ الوجودي، وهي فريدة ايضاً في التاريخ الشعري. لقد توفر لمحمود البريكان ان يصنع تاريخه الخاص في التاريخين: التاريخ الوجودي والتاريخ الشعري. ولم يكن للبريكان ان يتعمد مثل هذه الصناعة، قدر ما كان ينسجم باطمئنان وتلقائية مع مفهوم شخصي للشعر وهدفه منه، ويتواصل في نمط من الحياة ليس بعيداً عن ذلك الفهم الشخصي. لقد منع حياته من الاحتكاك بحياة الآخرين، غير انه لم يمنع حياة الآخرين، حين تختار هي ذلك، من ان تحتك بحياته. لم يتحدث احد عن ان البريكان اقتحم حياته، لكننا كنا نقتحم حياته فيستقبل اقتحاماتنا بأريحية وكرم يشعراننا، من فرطهما، أنه محتاج الينا. والنباهة وحدها تشعرك ان ليس للبريكان حاجة في العالم.هنا نكون امام مدخل ثانٍ لتجربة احتجاب شعر البريكان لم يظهر هذا الشعر في المرات الثلاث الكبرى التي ظهر فيها (مرة في مجلة شعر 69 ومرتين في مجلة الاقلام) الا بعد ان طلب منه هذا الظهور. أي انه لم يشأ اقتحام العالم الا بعد ان احتك به العالم نفسه.المرة الوحيدة التي طلب فيها البريكان الظهور كانت برسالة قصيرة حملها لي منه الشاعر علي الإمارة.. كان علي قد عرض عليه النشر في بعض المجلات العربية (ذكرها لي في الرسالة) وكانت الرسالة تستفسر مني عن مدى ضرورة النشر في هذه المجلات. غير ان الأهم في الرسالة هو تصريحه عن رغبته في نشر اعماله عراقياً وفي كتاب يصدر في بغداد وعن مدى امكانية خروج الكتاب بما يطمئنه ويريحه. كان للرسالة وقع خاص في نفسي، فليس من السهل ان تحظى بثقة رجل وشاعر مثل البريكان، من جانب، وليس من السهل ان اقنع نفسي من جانب ثان بمدى جدية البريكان الذي اعرفه في الإقدام، وبهذا اليسر، على امر كهذا.اصطحبت الصديق علي الامارة مباشرةً، وزرنا الشاعر سامي مهدي في مكتبه في جريدة الثورة. وحتى إذا ما عرضت عليه امر الرسالة رحب الرجل كثيراً بالفكرة (وشكك ايضاً بمدى جديتها)وقال ما معناه ان الكتاب يظهر خلال اسبوع وبأفضل ما يتمناه محمود. فطلبت منه كتابه ذلك في رسالة الى البريكان، ففعل الشاعر سامي مهدي بكرم اخلاق، برغم ان رسالة البريكان لم تكن موجهة اليه.هذه هي المرة الوحيدة التي طلب فيها البريكان الظهور. وهي مرة لم يكن جاداً فيها كما احسب، قدر ما كانت محاولة للابتعاد عن موضوع نشر الشعر في المجلات العربية وذلك باختلاق موضوع الكتاب.طبعاً لم تكن المرات الثلاث الكبرى التي ظهر بها شعر البريكان هي وحدها التي يطلب فيها شعر الشاعر. لم يطلب من شاعر، كما أتوقع، شعره للنشر كما طلب ذلك من البريكان. مرات اعترافاً بأهمية هذا الشعر وتعبيراً عن حاجة حقيقية إليه، ومرات أكثر منها بدافع الفضول الصحفي واستجابة لإغراءات أسطورة البريكان. عروض كثيرة تلك التي تلقاها الشاعر، غير ان آخر هذه العروض، لم تقدم له شخصياً، وانما لورثته بعد موته. لم نعرف بعد النتائج العملية لهذا العرض، وبما يعني ان روح الاحتجاب البريكانية مازالت تلقي بظلالها على شعر بات مصيره مجهولاً مع مجهولية حادث المصير الذي آل اليه محمود البريكان.كان شعر البريكان، في ما ظهر منه، شديد الاعتناء بالمصائر, انها الثيمة الأكثر دوياً في هذا الشعر. لقد كتب مصير أحياء كثيرة ظل يراقبها، ولم يكن مصيره بعيداً عن مراقبته، فكان ان كتبه في واحدة من اغرب القصائد في التسعينيات وأشدها تنبؤاً.. وحدث ان نشرها خلال مجلة الاقلام.في أعمال السحر تبطل الكتابة والرسم (في التعاويذ والرقى) فعل حدوث المكتوب، ولكن باشتراط ان يظل المكتوب سراً لا يُكشف ولا يُقرأ. فهل فضح البريكان السرَّ في نشر القصيدة التي اراد بها تفادي المصير الذي ختم حياته؟ لم تكن لقاتل البريكان من حاجة لتنفيذ الجريمة سوى تتبع السيناريو الذي وضعته القصيدة للجريمة، لتكتمل الجريمة، ومعها يحتجب البريكان ويحتجب معه شعره.لقد كان اهتمام البريكان بالمصائر وعبثها بما تؤول اليه الكائنات شكلاً من أشكال الاحتجاجات الوجودية، ولكنها، وبطريقة مواربة، كانت تعبيراً عن الاحتفاء بالحياة بصورتها الشخصية، التي لا تعني بالضرورة تعارضها مع الحيوات الأخرى، وانما تمتلك حق خصوصيتها، وحق هذه الخصوصية في ان تقرر مصيرها، استمتع البريكان بصنع حياته الشخصية، وكان لاقتحام الآخرين هذه الحياة فعله التدميري في بعض الاحيان (دخول القاتل في حياة البريكان مثلاُ). لم يكن يستطيع ان يمنع الاخرين من ان يقتحموا هذه الحيا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

البرلمان يستأنف جلساته الاسبوع الحالي بعيداً عن التشريعات الجدلية 
غير مصنف

البرلمان يستأنف جلساته الاسبوع الحالي بعيداً عن التشريعات الجدلية 

بغداد/ المدى كشف نائب رئيس الأقاليم والمحافظات البرلمانية جواد اليساري، مساء اليوم السبت، عن عودة عقد جلسات مجلس النواب خلال الأسبوع الحالي، فيما أكد عدم وجود أي اتفاق على تمرير القوانين الجدلية. وكان البرلمان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram