TOP

جريدة المدى > غير مصنف > محمود البريكان:في غيبوبة الذكرى

محمود البريكان:في غيبوبة الذكرى

نشر في: 31 مارس, 2010: 05:10 م

د. حاتم الصكر*  حين نعت الأنباء القادمة من العراق واحداً من مؤسسي مشروع الحداثة الشعرية الأولى في العراق، ورفيق درب السياب في خطاه المبكرة، وآبن مدينته الشاعرة: البصرة، تذكرنا محمود البريكان بكونه الصامت الأكبر في جيله، فهو لم يصدر ديواناً برغم بصماته الواضحة في الشعرية العراقية، وقصائده المتوفرة على حداثة أسلوبية تزهد بالإيقاعات التقليدية والموسيقى الخارجية، وتبني عالمها بتقنيات متفردة.
أذكر أن قراءتنا للبريكان توقفت عند مرحلة أسماها النقاد (مرحلة حارس الفنار) في اشارة الى قصيدته الشهيرة بالعنوان نفسه ، وما تسرب إلى النشر بعدها من قصائده الشحيحة التي تغطي فترة الخمسينيات والستينيات، وما صاحبها في فترة (سيادة الفراغ) كما يلخص الشاعر عبدالرحمن طهمازي الذي استنبط عنوان مقدمته لمختارات البريكان الشعرية من قول الشاعر: الرياح هي بعد سيدة الفراغ وكل متجه رياح وسوف يركن الشاعر من بعد إلى صمت طويل، قريب من (موت شعري) مؤقت، لكن أصدقاءه المقربين يعلمون أن البريكان (يعيش) شعرياً ويكتب، لكنه يزهد بالنشر لأسباب ظلت مجهولة، لعل أكثرها ترديداً هو خوفه المبالغ فيه، أو (رهابه) في الأصح، من الأخطاء الطباعية التي تظهر في القصائد عند النشر.وكان لي خلال رئاستي لتحرير مجلة (الأقلام) توق شديد لاقتحام عزلته، حتى أقنعته خلال إحدى زياراتي للبصرة وبمساعدة الصديق الراحل الشاعر رياض عبدالكريم ، أن يخرج من صمته، ما دام لديه شعر لم ينشر، وهو فيما قرأنا مواكب للحظة الحداثة التي وصلت إليها القصيدة العربية الحديثة، فضلاً عن مراقبة البريكان المدهشة، والمفاجئة بالنسبة لي ، للمشهد الشعري المعاصر بتفاصيله الدقيقة’أي ان عزلته فعلا ذات طابع فناري ’فهو يراقب من معتزله القصي نبض الحياة الحقيقية وتجلياتها المجازية في الشعر.وهكذا أفلحنا بعد جهد وبشروط عسيرة منه تتصل بالمراجعة المتأنية والدقيقة للتجارب الطباعية أن نقنعه بنشر (18قصيدة) كتبها بين عامي 1970 و 1992 ، وأعطاها عنوان (عوالم متداخلة) ونشرناها في (الأقلام) العدد 3-4/1993 بمقدمة مني بعنوان (الذكرى تلاعب النسيان) ولا أستطيع حتى اللحظة نسيان لقائي الأخير به حيث أعد مائدة صغيرة يتوسطها إبريق شاي وكؤوس بعدد الضيوف (صحبني في لقائي ذاك الشاعر الراحل رياض إبراهيم والشاعر حسين عبداللطيف) وكان البيت الذي يسكنه وحيداً غارقاً في الظلمة، عدا الغرفة التي جلسنا فيها، بينما كانت تنبعث أصوات الموسيقى من جهاز ضخم يضعه في غرفة نومه..وذكر في اللقاء خوفه على القصائد وتأكدت لي انسانيته وتواضعه ورهافة احساسه,برغم ما لاحظته من تلميحاته الى انه سبق الرواد في تجربة الشعر الحر, وان السياب نفسه يعلم بذلك.وبعد قراءة تحليلية للقصائد التي هيأها بنفسه ورتبها بالكيفية التي ظهرت عليها عند النشر ووضع عنوانها أيضا فكانت أشعاره تولد أول مرة برعايته دون قابلة أو وسيطسنجد أن مرحلة (عوالم متداخلة) كانت شيئاً جديداً في شعر البريكان، حيث دخل السرد كعمود فقري لقصائده، وخفّ احتفاؤه بالوزنية ولوازم الموسيقى الخارجية والتقفية لمصلحة الأفكار التي تزدحم بها قصيدته، متنازلاً عن الغنائية والمباشرة والفهم العادي للنثرية وتضييف الحس النثري في القصيدة، مندفعاً إلى تأثيث قصائده بالافكار التي لم تسمح بالاستطالات او الترهلات فكتب مجموعة قصائد قصيرة بسطرين شعريين أسماها (بلورات) وراح يكثف من خلالها رؤاه ومخاوفه التي كان أشدها وضوحاً وأكثرها ظهوراً : خوفه من الموت، فالإنسان بين المخلوقات الحية هو الوحيد الذي (يموت في داخله .. يموت في غيبوبة الذكرى).هذه الفكرة التي تشع في شعره، سيجعل لها تجلياً آخر حيث تتبادل الأحلام واليقظة أدوارهما وتفسيراتهما: تصادف الأحلامتفسيرها في لحظة اليقظة………….تصادف اليقظة تفسيرهافي حلمٍ تدفنه الذاكرة  لا شك انه يطارح هنا فكرة ميتافيزيقية عن الموت والحياة فكأن الحياة حلم أو ذكرى تتبادل الأدوار مع الغياب في اليقظة أومع اليقظة في الغياب.ويركز فكرة اننا نعيش ظل حياتنا أو ذكراها لا الحياة نفسها.كما يترك بتبادل الالفاظ: (يقظة-أحلام-غياب –ذكرى)امكان او احتمال أن تكون الحياة ذاتها تصورا لا حقيقة.ويؤازر هذا التصور الميتافيزيقي تصميم قصدي لتوزيع الكلمات والأبيات على السطح الكتابي مما يهب المفردات والتراكيب وجودا خاصا يفرض أعرافه عند التلقي كما هو عند الكتابة’متجاوزا متطلبات خطية البيت الشعري أو ايقاع الوزن.ولم يكن يشدني في عودته الثانية والأخيرة للنشر شيء مثل حرصه على توزيع كلماته في الأسطر الشعرية ووضع النقاط في أماكنها، وحرصه على مساحات البياض. وحين جاء نعيه تذكرت على الفور إحدى قصائد (عوالم متداخلة) وهي قصيدة (الطارق) التي تحكي عن زائر متخف أو رسولٍ من الغيب ينتظره الشاعر ويتوقع دقاته على الباب، في يقين غريب هو جزء من نبوءة عجيبة بالقدر المحتوم الذي سيلاقيه من بعد.  ولعل هذا الطارق الليلي المفاجئ هو ذاته (الزائر المجهول) الذي كان ينتظره حارس الفنار في إحدى قصائد البريكان الذي يسأل : (متى يجئ الزائر المجهول؟).وكان أن جاء هذا الزائر مقتحماً وحدة البريكان وعزلته، ملقياً به في غيبوبة الذكرى، والغريب أن ذلك كله حصل في غموض وسرّية وبات حتى

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

السوداني يعرض المساعدة على السوريين لضمان تمثيل مكونات الشعب في النظام الجديد
غير مصنف

السوداني يعرض المساعدة على السوريين لضمان تمثيل مكونات الشعب في النظام الجديد

بغداد/ المدى أعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، مساء الأربعاء، استعداد العراق لتقديم المساعدة للسوريين، بما يضمن تمثيل جميع مكونات الشعب في النظام الجديد. جاء ذلك، خلال استقبال رئيس الوزراء، لوزير الدفاع الألماني بوريس...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram